قناة أ.د. حاكم المطيري ✔

🔹 وهذا مثل ضربه الله للإنسان الذي أودع الله في فطرته ما يعرف به ربه جل جلاله، وجعل من افتقاره الذاتي ما يضطره إلى الإقرار فعلا بهذه المعرفة، بإخلاص الدعاء لله عند الشدة، كما قال تعالى: ﴿أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون﴾ [النمل: ٦٢].
فلما ذكر الجاحد الكافر من جنس الإنسان، قابله بالمؤمن العابد المطيع الشاكر، فقال أذلك خير ‏﴿أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما﴾، و(أم) هنا مشددة مدغومة بمن الموصولة، وهي حرف للمعادلة والمقابلة بين شيئين، وهما هنا حال الجاحد، وحال القانت، أو هي حرف عطف للإضراب بمعنى (بل).
وقرئت أيضا مخففة فتكون همزة نداء، كأنه قال: (يا من هو قانت) عابد أنت من أهل الجنة وخير من الجاحد، أو همزة استفهام إنكاري (أ مَنْ هو قانت) كمن هو جاحد من أصحاب النار؟! واكتفى بالجواب بمقابلته مع حال الجاحد ومصيره.

🔹و(من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) قيل المراد به هنا النبي ﷺ، فهذه أوصافه ﷺ، والظاهر أنه عام ضرب مثلا لكل مؤمن موحد لله شاكر لنعمته عليه بعبادة الله وحده، والقنوت يطلق على القيام في الصلاة بخشوع، وهي أبرز شعائر الإسلام، واكتفى هنا بذكر السجود عن الركوع، حيث تتجلى فيه أبرز مظاهر العبودية لله بوضع الرأس والجبهة في الأرض، اعترافًا بربوبيته وحده لا شريك له، وهو أشرف مواطن الصلاة، كما في الصحيح: (أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد).

🔹 وخص آناء الليل وساعاته بالذكر؛ لأن فيه أشرف ساعات العبادة وهو ثلث الليل الأخير حيث ينادي الله عباده في السحر: (من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له)، وفي أوله صلاة العشاء، وفي آخره صلاة الفجر، وهما أعظم صلاتين، كما في الصحيح عن عائشة قالت: (أعتم رسول الله ﷺ بالعشاء، حتى ناداه عمر الصلاة! نام النساء والصبيان! فخرج فقال ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم، قال ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول).
وعن ابن عمر، قال: (مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله ﷺ لعشاء الآخرة، فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل، أو بعده، فقال حين خرج: إنكم تنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن تثقل على أمتي لصليت بهم هذه الصلاة هذه الساعة).
وفي الحديث الصحيح عن عثمان عن النبي ﷺ قال: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله).
فصار من صلى العشاء والفجر في الجماعة، فكأنما قام الليل كله، وهو وصف القانت لربه آناء الليل ساجدا وقائما.

🔹 فذكر في هذه الآية أشرف العبادات وهي الصلوات، وأشرف أركانها وهو القيام والسجود، وأشرف أوقاتها وهي آناء الليل وساعاته، حين يكون النوم أحب إلى النفس من كل شيء، فلا يقوم للعبادة إلا المؤمن القانت لربه، وقد فسر ابن عباس القنوت بالطاعة، وأشرف الطاعات وأحبها إلى الله الصلوات الخمس في أوقاتها، كما في الصحيح: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: الصلاة على وقتها).

🔹 ثم ذكر إخلاص هذا القانت لله بقوله ‏﴿يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه﴾ فلا يريد بطاعته لله، وعبادته له سبحانه، إلا رحمته وعفوه وجنته، والنجاة من عذابه وعقابه يوم القيامة، فلا شرك، ولا نفاق، ولا رياء، بل إخلاص لله، ورجاء رحمته، وخوف منه، كما قال الله عن المؤمنين: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون﴾ [السجدة: ١٦].
وكما قال الله عن النبي زكريا وزوجه وابنه يحيى: ﴿إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين﴾ [الأنبياء: ٩٠].

🔹 وقد جعل الله الخوف والرجاء شرطين لقبول الطاعة والعبادة كلها، كما قال تعالى: ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين﴾ [الأعراف: ٥٦].
فلا يزال المؤمن بين خوف من ربه، وخشية من سخطه وعقابه يحمله على طاعته وعبادته والوقوف عند حدوده، ورجاء بعفوه ورحمته وإحسان ظن به، يحمله على الفرح بربه، والسرور بعبادته، فلا يغلب خوفه رجاءه فييأس من النجاة، ولا يغلب رجاؤه خوفه فيسرف على نفسه، ويفرط في جنب الله.

www.tg-me.com/us/قناةأدحاكمالمطيري/com.DrHAKEM/12942

2.0K viewsMay 10 at 02:15

🔹 وهذا مثل ضربه الله للإنسان الذي أودع الله في فطرته ما يعرف به ربه جل جلاله، وجعل من افتقاره الذاتي ما يضطره إلى الإقرار فعلا بهذه المعرفة، بإخلاص الدعاء لله عند الشدة، كما قال تعالى: ﴿أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون﴾ [النمل: ٦٢].
فلما ذكر الجاحد الكافر من جنس الإنسان، قابله بالمؤمن العابد المطيع الشاكر، فقال أذلك خير ‏﴿أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما﴾، و(أم) هنا مشددة مدغومة بمن الموصولة، وهي حرف للمعادلة والمقابلة بين شيئين، وهما هنا حال الجاحد، وحال القانت، أو هي حرف عطف للإضراب بمعنى (بل).
وقرئت أيضا مخففة فتكون همزة نداء، كأنه قال: (يا من هو قانت) عابد أنت من أهل الجنة وخير من الجاحد، أو همزة استفهام إنكاري (أ مَنْ هو قانت) كمن هو جاحد من أصحاب النار؟! واكتفى بالجواب بمقابلته مع حال الجاحد ومصيره.

🔹و(من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) قيل المراد به هنا النبي ﷺ، فهذه أوصافه ﷺ، والظاهر أنه عام ضرب مثلا لكل مؤمن موحد لله شاكر لنعمته عليه بعبادة الله وحده، والقنوت يطلق على القيام في الصلاة بخشوع، وهي أبرز شعائر الإسلام، واكتفى هنا بذكر السجود عن الركوع، حيث تتجلى فيه أبرز مظاهر العبودية لله بوضع الرأس والجبهة في الأرض، اعترافًا بربوبيته وحده لا شريك له، وهو أشرف مواطن الصلاة، كما في الصحيح: (أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد).

🔹 وخص آناء الليل وساعاته بالذكر؛ لأن فيه أشرف ساعات العبادة وهو ثلث الليل الأخير حيث ينادي الله عباده في السحر: (من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له)، وفي أوله صلاة العشاء، وفي آخره صلاة الفجر، وهما أعظم صلاتين، كما في الصحيح عن عائشة قالت: (أعتم رسول الله ﷺ بالعشاء، حتى ناداه عمر الصلاة! نام النساء والصبيان! فخرج فقال ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم، قال ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول).
وعن ابن عمر، قال: (مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله ﷺ لعشاء الآخرة، فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل، أو بعده، فقال حين خرج: إنكم تنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن تثقل على أمتي لصليت بهم هذه الصلاة هذه الساعة).
وفي الحديث الصحيح عن عثمان عن النبي ﷺ قال: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله).
فصار من صلى العشاء والفجر في الجماعة، فكأنما قام الليل كله، وهو وصف القانت لربه آناء الليل ساجدا وقائما.

🔹 فذكر في هذه الآية أشرف العبادات وهي الصلوات، وأشرف أركانها وهو القيام والسجود، وأشرف أوقاتها وهي آناء الليل وساعاته، حين يكون النوم أحب إلى النفس من كل شيء، فلا يقوم للعبادة إلا المؤمن القانت لربه، وقد فسر ابن عباس القنوت بالطاعة، وأشرف الطاعات وأحبها إلى الله الصلوات الخمس في أوقاتها، كما في الصحيح: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: الصلاة على وقتها).

🔹 ثم ذكر إخلاص هذا القانت لله بقوله ‏﴿يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه﴾ فلا يريد بطاعته لله، وعبادته له سبحانه، إلا رحمته وعفوه وجنته، والنجاة من عذابه وعقابه يوم القيامة، فلا شرك، ولا نفاق، ولا رياء، بل إخلاص لله، ورجاء رحمته، وخوف منه، كما قال الله عن المؤمنين: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون﴾ [السجدة: ١٦].
وكما قال الله عن النبي زكريا وزوجه وابنه يحيى: ﴿إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين﴾ [الأنبياء: ٩٠].

🔹 وقد جعل الله الخوف والرجاء شرطين لقبول الطاعة والعبادة كلها، كما قال تعالى: ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين﴾ [الأعراف: ٥٦].
فلا يزال المؤمن بين خوف من ربه، وخشية من سخطه وعقابه يحمله على طاعته وعبادته والوقوف عند حدوده، ورجاء بعفوه ورحمته وإحسان ظن به، يحمله على الفرح بربه، والسرور بعبادته، فلا يغلب خوفه رجاءه فييأس من النجاة، ولا يغلب رجاؤه خوفه فيسرف على نفسه، ويفرط في جنب الله.

BY قناة أ.د. حاكم المطيري