Telegram Group Search
ابتلينا بحالة من التطرف الشعوري تجاه التعامل مع القدوات، صرنا في رهاب مستمر من كل حكم؛ نخشى أن نثني على مستحق فنوصف بالتقديس والمبالغة، أو ننتقده فنوسم بالإسقاط والحسد.
دعونا من أوهام الطرفين؛ الحق أن ثمّ قدرًا من حفظ المقامات لابد أن يستحضر قبل أي تحذير أو نقد، لا يعني هذا منع النصح أو حتى منع النصح العلني؛ لكنّي أقول أن تخطئة ذوي الهيئات فيه خطوة إضافية حريٌ أن نتبصر قبلها وهي: صيانة الرصيد الرمزي.
إنكار المنكر واجب؛ والنظر لابدّ أن يمتد لمعطيات أخرى، نوع المسألة، وأثرها، وتكررها، ودافعها، ورتبتها.
ثم ننظر لمعطيات الرد، أسلوبه، وأثره على المسألة، وأثره على رصيده الرمزي.
هذا في حال التسليم بوجود منكر.

بعض العلماء يكون رأسًا يقتدى به في مجال، و قوته إما في علمه، أو في شخصيته العامة وجاهه الحاضر، أو هما معًا؛ ليس من الرشد أن تنظر للخطأ دون فاعله.
وأكرر أن هذا لا يعني التقديس عند من يفهم دلالات الكلام، لكنها دعوة لعدم كسر الحاجز الزجاجي فيدلف منه من يحطم بقية الحاجز ويحطم الشخص معه.
وهذا معلوم عند السلف؛ قال ابن عبد البر -رحمه الله-: روى ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكر بن الأشج عن القاسم بن محمد أن رجلًا قال له: عجبتُ من عائشة حين كانت تصلي أربعًا في السفر، ورسول الله ﷺ كان يصلي ركعتين، فقال القاسم بن محمد: "عليك بسنة رسول الله ﷺ، فإن من الناس من لا يُعاب" [1]

وروي عن مالك أنه قال: بلغني عن القاسم بن محمد كلمة أعجبتني، وذاك أنه قال: "من الرجال رجال لا تذكر عيوبهم" [2]

وروى مالك بن أنس قال: سمعت الزهري يقول: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب، لا بد، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله" [3]

ليست المسألة أهوائية، ولا دعوة لترك النكير، ولا هدفها التعصب للأشخاص، هي محاولة اتزان لفقه الإنكار بما يغلب خروج أثره عن المسألة إلى الشخص، فبعض الناس قد يعالج سوسة فيقتلع الضرس، استحضر ما ذكرته من معطيات فإن غلب عندك -بعد كل هذا- وجوب الإعلان فأعلن نكيرك، وإلا فلا.

فكّر في نقطة؛ أن التردد للحالة التي يمثلها، وليست لشخصه، ثم قرر.
————
[1] جامع بيان العلم وفضله (2/ 1208)
[2] تاريخ أبي زرعة (1/ 420)
[3] الكفاية للخطيب (1/ 79)
في سنن الترمذي ومسند أحمد قال صلى الله عليه وآله وسلم:
‏"من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة"

‏الشريعة تقرر في أكثر من موضع أن الجزاء من جنس العمل، وأفهم من التناظر بين العرض والنار أن مس العرض كمس النار في الألم والأثر؛ لذا كان مستحقًا لجزاء من جنس عمله.
البس ثوبك:
—————-

كنتُ أحادث رجلًا خمسينيًا يشكو حزنه، قال ما معناه: لم أطلب من زوجتي أو بنتي شيئًا في حياتي، والآن أشعر باحتياجي لبعض الأشياء لكن كسر الألفة شديد، كنت أمنّي نفسي أنهم سيذكرون لي هذا، وها أنا أرى أقراني يطوف عليهم أولادهم قبل أن ينطقوا بالطلب؛ وأنا أتآكل بحسرتي.

قلت له كلامًا مفاده أنه لم يفت شيء، وأنه لا بأس من استحداث عادة، لابد أن تكون صريحًا ولن يعيبك أن تلبس ثوبك الذي يليق بك.

البس ثوبك؛ فلكل وجه من شخصياتنا ثوبه الملائم.

حين تكون زوجًا؛ لا بأس أن تطلب ما تتمناه بأدب ورفق، لا تسكت بانتظار أن يبادر طرف بفهمك وأنت صامت، وإلا ستندم.

حين تكون طالبًا؛ اسأل ما بدا لك، البس ثوب الطالب المفصل على حالتك، وإلا فقدت أشياء مهمة.

حين تكون أبًا؛ اطلب من أبنائك البر وبادلهم المحبة، اعتب حين ينقصك شيء، لا تنتظر أن يلبسك أحد ثوب الأبوة وأنت قد نزعته.

حين تكون صديقًا؛ عاتب بلطف على تقصير بدا في حقك، لا تلعب لعبة انتظار المفاجآت؛ استبقِ نفسك وإخوتك بالتذكير.

حين تكون أستاذًا؛ لا يعيبك أن تطلب احترامك، تبسّط ما اتسع صدرك، ثم ضع حدودك بصرامة؛ البس ثوب أستاذيتك دون خجل.

أينما تكن؛ البس ثوبك، وإذا علمتَ من نفسك سماحة للتنازل عن حقك دون ندم لاحق فافعل، وإن كنتَ ستتنازل ثم تندم فإياك وإياك.
قرأت في الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي قوله:
"رأيت في الهبة من منية المفتي: فقير محتاج معه دراهم، فأراد أن يؤثر على نفسه، إن علم أنه يصبر على الشدة فالإيثار أفضل وإلا فالإنفاق على نفسه أفضل، انتهى" [1]
وهذا في شأن الأخلاق آكد، إذا تنازلت عن شيء من حقك وآثرت به غيرك فانظر صبرك؛ ثم قرر.

البس ثوبك؛ فإن قررتَ نزعه بإرادتك فلا تشكُ لأحد برودة أطرافك.

هذا حديثٌ بعيد عن مثالية النصائح الاجتماعية، وأعتذر لمحبي العبارات المغلفة.

———————

[1] طبعة دار الكتب العلمية، ص١٠٢، أثناء حديثه عن مسألة " هل يكره الإيثار في القُرَب"
إياك والفرح بموافقة من يحكّم عاطفته في تقييم الأشخاص بقوله: "لم أكن مرتاحًا له"؛ اليوم يقولها في خصمك، وغدًا حين تختلفان يستفتي مزاجه المقدس فيك أيضًا.
التخصص الانتقالي:
————————-
تشيع في أوساط طلاب العلم أحاديث عن ثنائية "التخصص" و "التفنن"، وهذا تبسيط مخل.
ما أريد قوله هنا فكرة لطالما آمنتُ بها؛ ألا وهي تفكيك النظر للتخصص إلى مجموعة أجزاء.
التخصص -الأكاديمي- يعبر إدوارد سعيد بأنه "ضغط" على المثقف.
ومما قاله عن الضغوط الأربعة:
" أما أول هذه الضغوط فهو التخصص ، فكلما ارتقى المرء في مدارج النظام التعليمى اليوم، از داد انحصاره في النطاق الضيق نسبيًا لمجال من مجالات المعرفة.
ولا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يعترض على اكتساب المقدرة والكفاءة في ذاته، ولكنه إذا أدى إلى إغفال النظر إلى كل ما لا ينتمى إلى المجال المباشر للتخصص [أي: هنا يكمن الاعتراض] [1]
تقسيم العلوم إلى وسائل وغايات ليس حاصرًا، فتوظيف العلوم لا يكون بهذا التجريد الأولي.

في المعرفة التراثية إدراك خفي لرتبة "التخصص الانتقالي"، فسيدنا ابن عباس كان آية في معرفة الشعر وأيام العرب؛ لكنه بتعبير الأكاديميا "متخصص" في التفسير، والتخصص الانتقالي تراه عند الإمام الشافعي حين استفتح حياته بالتبصر في الشعر فأنتج لنا رسالته المؤسسة لحقل الأصول، أبو جعفر الطبري شيخ المفسرين له تخصصات انتقالية أهلته للتفسير، الطاهر ابن عاشور جعل من اهتمامه البلاغي تخصصًا انتقاليًا لتخرج لنا تحريراته وتنويراته.
أحب في هذا المقام فكرة مجاهد ابن جبر -تلميذ ابن عباس- حين قال:
"استفرغ علمي القرآن"[1]
وأفهم منه أن تفسيره كان مصبًا لتخصصات انتقالية مسبقة.
هل هناك فرق بين الكلام عن آلات العلوم وبين التخصصات الانتقالية؟
نعم؛ فآلة علم معين تكون جزءًا منه ولو بلون آخر، فالمتعلم يتعلمها وعينه على تخصصه، يرى الآلة هامشًا مؤقتًا.
أما التخصص الانتقالي فمعناه التوافر على علم وكأنك لن تتقن غيره، حتى إذا حصلت ذوق الفن، وصرت من أهله، اتخذت هذه الملكة جواز سفر لعلمٍ آخر.
أنت في التخصص الانتقالي تتعلم النحو كأهله؛ ولا تتعلم نحو الفقهاء.

انظر لهذين النصين لمتقدم ومتأخر؛ لكن سمت المعرفة الشرعية التراثية له بصمته الموحدة، بخلاف روح التخصص الأكاديمي المعاصر:

1- جاء في الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى هذا النص:

"وحكى بدر الدين القرافي إن الإمام الشافعي كان يقول ما معناه: دأبت فِي قراءة علم التّارِيخ كَذا وكَذا سنة وما قرأته إلّا لأستعين به على الفقه" [3]

هذه قراءة تخصص انتقالي، لا يراد منها المعلومات، وإنما الملكات.

2- كان العلامة عبدالحميد الفراهي [ت: 1349 هـ] يقول:
"كلما ازددت علمًا واحدًا ازددت علومًا فيما علمت" [4]

وهذه عبارة مشرقة تحمل من المعاني أضعاف ظاهرها اللفظي.

ما نتيجة ما أريد قوله؟
سأذكر رؤوس أقلام تحتاج بسطًا في ورقة:
1- طبيعة المعرفة الشرعية أوسع من ضيق التخصصات الأكاديمية ولو كانت شرعية.
2- الإبداع العلمي في العلوم الشرعية يكون بتفعيل "التخصص الانتقالي"؛ أما استجلاب أدوات العلوم الإنسانية في المباحث الشرعية فعصا الأعمى الذي يحس بوجود انسداد لكن لا يعرف المخرج.
3- التخصص -في الأصل- محطة عبور لا نقطة وصول.
4- التخصص الجامد بصيغته الأكاديمية لا يفني العمر فقط؛ ولكنه يعطل الملكات، ويضيق المدارك.
5- وصف من لا يحمل شهادة الأكاديميا المقدسة في الشريعة بأنه من هواة المجال لا متخصصيه يعرقل مسيرة الإحياء العلمي؛ فطبيعة العلوم الشرعية والعربية لا تحتمل قوالب الأكاديميا، وحصرها تضييق يساهم في الإضعاف أكثر.

وللحديث ذيول تبسط هذه الإشارات.

———
[1] المثقف والسلطة، إدوارد سعيد، ترجمة: محمد عنان ص133-134
[2]فضائل القرآن للقاسم بن سلام (1/ 101)
[3]الاستقصا (1/ 59)
[4] دلائل النظام ص46
حول الشروح المنهجية مرة أخرى:
——————————————

هذا تتميم لما كتبت قبل يومين حول "الشروح المنهجية"؛ قررت آنذاك أن الأصل الذي يجب أن ترتكز عليه الشروح -سواء كانت لمتون أو تعليقات الكتب- حاجة الطالب لا عرض علم الأستاذ.
كل انحراف عن هذا الأصل سيسبب تشوهات للمعرفة ولذهنية الطالب، وقد عزا ذلك العلامة الطاهر بن عاشور إلى محبة الأستاذ رسم صورة ذهنية تشي بالتحقيق وعلو الرتبة في العلم فقال:
"يعرض كثيرًا لمن اتَّسعت معلوماتهم من المتصدِّرين للتدريس في مبدأ تصدُّرهم؛ فيدفعهم حبُّ إظهار ما لهم من المزيَّة، ثمَّ لا يلبث أن يستيقظ من بهجته ويصير إلى وضع المقادير في نصابها" [1]
الإنسان في مرحلة ما من عمره يبحث عن قبول واعتراف، فيبذل في سبيل ذلك ما قد يخجله لاحقًا إذا نضج.
وممن اعترف بسلوك هذا المسلك العلامة محمد الخضر حسين -رحمه الله- في الرحلة الجزائرية إذ قال:
"وقد كنت -عافاكم الله- ممن ابتلي درسه باستجلاب المسائل المختلفة الفنون، وأتوكأ في ذلك على أدنى مناسبة حتى أفضى الأمر إلى أن أتجاوز في الدرس شطر بيت من ألفية ابن مالك مثلاً، ثم أدركت أنها طريقة منحرفة المزاج، عقيمة من الانتاج، ونرجو أن تكون توبتنا من سلوكها توبة نصوحا" [2]
نقله رفيق دربه وخليل روحه الطاهر بن عاشور ثم عقب بقوله:
"وأنا أيضا عرض لي مثل ذلك في تدريس المقدمة الأجرومية فكنت آتي في من شرح الشاطبي على الألفية، وفي درس مقدمة إيساغوجي، فأجلب فيه مسائل من النجاة لابن سينا ثم لم ألبث أن أقلعت عن ذلك"[3]

هذه الحالة الاستعراضية التي مررنا بها كلنا تشبّ وتخبو، تبحر وترسو، زبد لا يمكث في القلوب المؤمنة بشرف الرسالة وحق الطلاب في الترقي المنهجي المتدرج، فالإمام الشافعي -رحمه الله- يقول:
"ازدحام العلم في السمع مضلّة للفهم"[4]
النضج العلمي قوامه مراعاة الحاجة، وتجريد النية عن حظوظ الظهور اللافت، وغرس جذور الروح في تربة المسؤولية.

—————
[1] أليس الصبح بقريب ص17
[2] الرحلة الجزائرية ص37-38 وهو في "أليس الصبح بقريب" الصفحة السابقة
[3] أليس الصبح بقريب ص17
[4]عزاه الزبيدي في شرح الإحياء للشافعي (1/‏ 334)، وهو برواية أطول عن عتبة بن سفيان يوصي معلم ولده كما في التذكرة الحمدونية (1/ 354).
بئر الرضا:
————-

آسفٌ على هذه الصورة غير اللبقة؛ لكنّ بعضنا يبصق في بئر رضا إخوانه، تجد المرء يحكي عن تفاصيل حياته على أنها عادية، فيأتيه من يفسد فرحته، ويعكر صفو أيامه، ويوقد في صدره كلمات وأسئلة ماكانت تخطر بباله.
أحد الأصدقاء المقربين اشتكى لي من عدم تقبله لزوجته، وبدأ يحكي عن تقصيرها، وحشد لها من صفات التبخيس ما يجعلها عديمة الفائدة.
أعرف صديقي؛ نخرج لمطعم فلا يشترط، نسافر ولا يدقق في المكان، ولا تغريه التفاصيل، سمحٌ متغافل، وأعلم من حديثه السابق أن زوجته حسنة الخلق، طيبة المعشر؛ فما الذي حدث؟
حاولت الرجوع به لأصل المشكلة، كلما تحدث عن حاضره أعدته للماضي -حتى أفهم سر تغيره-، أنا واثق أن بئر رضاه تعكرت فما عاد يستعذبها.
وجدت ضالتي حين قال هذا الموقف، قال البداية من محادثة بيني وبين صديق، طلب مني تصوير غلاف كتاب تحدثنا عنه.
يقول: صورت له الكتاب بعشوائية فظهر الغلاف، وحوله جزء من المكتب، على المكتب كوب شاي كرتوني.
قال صاحبه: كوب كرتون؟ أنت عزابي الآن؟ زوجتك عند أهلها؟
قال: لا، ليه السؤال؟
قال -الكلمة الصادمة-: كوب شاي كرتوني! تزوجت ليش؟
غيرك زوجاتهم يهيؤون لهم ما لذ وطاب أثناء بحثهم، أنت لست بقليل، لا تهن نفسك فيعتادوا مهانتك.

قال: والله ما طاب لي مطعم ولا مشرب بعدها، وصرت أنظر لزوجتي على أنها شيطان، وكلما طلبت مني شيئًا قلت في نفسي: ولماذا تطلب وهي مقصرة بحقي؟

حاولت تفكيك الفكرة في عقله، وأحسب أنه اقتنع.

لكن بالله عليكم؛ إذا رأيتم من يعمل 16 ساعة وهو راضٍ؛ لا تقولوا: وأين أوقات راحتك؟
وإذا رأيتم من يحكي برضا عن راتبه؛ لا تقولوا: كيف بك إذا دهمك طارئ؟
وإذا رأيتم من رضي عن شريكه فلا ترفعوا سقف تطلعاته.

نحن في زمن القلق، ومد العين، إياكم والبصق في بئر الرضا.
بابٌ: في أن التوبة ثمرة لا بذرة:
—————————————-

جربتُ في حياتي أمرًا وأرجو أن يكون في ذكره نفع لمن يقرأ؛ التغيير للأفضل في تدينك ليس "قرارًا" تتخذه.
التغيير الذي يرسخ هو ما كان "نتيجة" أعمال صالحة أخرى.

سأضرب مثالًا:
إذا عزمت على بر الوالدين، وإلانة الكلام لهما، فالطبيعة البشرية تأبى أن يكون "قرارك" بالبر صامدًا لأبعد من حالة شعورية عابرة.

الحل أن ندخل في السلم [الإسلام] كافة، أن نستعين على الطاعات بالطاعات، ندخل أجواء الصلاح بأكثر من عبادة حتى تكون التوبة "نتيجة" لا "قرارًا".

تريد إقلاعًا عن الكلام البذيء؟
لا يكفي أن تقرر هذا، عليك أن تحافظ على صلاتك، تبر بوالديك، تحسن خلقك، سيأتيك الإقلاع عن بذيء الكلام "نتيجة" لصلاحك، لا "قرارًا" تتخذه.

لاتستهن بهذا المعنى، وتذكر معي:

التوبة ثمرة لا بذرة.
درس من ابن رجب:
————————-

القراءة المركزة لتراث عالمٍ تمنحك صحبة معنوية له، تعرف لازماته اللفظية، وتستشرف زوايا تفكيره، وتكوّن تصورًا لطبيعته النفسية؛ كنت قد كتبت عن ابن حزم، والطوفي، واليوم سأقول لكم كيف أرى الحافظ ابن رجب -رحم الله الجميع-.
هذا الرجل لم يكن ممن يحرص على تقديم نفسه بصورة المدقق؛ كان مقتصد الألفاظ، بسيطًا في مجالسه، لا يتفاصح، ولا يمد بساط الدعاوي العلمية.
تملكتني غصة حين قرأت للمرة الأولى كلام ابن المبرد عنه، صنع ذيلًا على ذيله على طبقات الحنابلة، وترجم له.
سرد مؤلفات الزين ابن رجب، ثم قال هذا الملمح الذي يخبرنا أن الكبار أرسخ جذورًا مما تظهره ثمارهم:

"وكتاب «القواعد الفقهية»، مجلدٌ كبيرٌ، وهو كتاب نافعٌ من عجائبِ الدهرِ حتّى أنه استُكثِرَ عليه، حتّى زَعم بعضُهم أنه وجَدَ قواعدَ مبدّدة لشيخ الِإسلام ابن تَيمِية فجمعها، وليس الأمر كذلك، بل كان رحمه تعالى فوق ذلك"[1]

استكثروا عليه تأليف كتاب القواعد، ورأوا في الأوراق التي تركها تحريرات فريدة، وهو الذي كان لا يهتم بتسويق نفسه.
ومن أدل المواقف التي تدل على تساميه عن حظوظ النفس، ومواقف الاستعراض، وشهوات البروز= هذا الموقف العجيب.
يقول ابن المبرد -رحمه الله-:

"أُخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [أي: الحافظ ابن رجب] مسألة فأطنب فيها، فعجبت من ذلك، ومن إتقانه لها، فوقعت بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب، وغيرهم فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة.
فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمت فيها بذلك الكلام؟!
قال: إنما أتكلم بما أرجو ثوابه، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس" [2]

لم ينتفض خشية أن يوصف بقلة العلم بين أقرانه، ولا تأول لصورته المعلقة في نفوس الآخرين.

إيهٍ يا نسيم المخلصين، إيهٍ يا عرف الأسوياء.

—————
[1] الجوهر المنضد لابن المَبرَد الحنبلي (1/ 49-50)
[2] السابق (1/ 52)
كنتُ قد كتبت عن نعمة الإحساس بالجمال، والذي أعتقده يقينًا أنه ما زاد عبد في التذوق الجمالي إلا كان أكثر قابلية لتلقي جماليات الوحي، وفي حديث أبي موسى في الصحيحين حديث عن هذه القابلية : "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث أصاب أرضًا، فكان منها نقية، قبلت الماء..."[1]
هذا القبول هو عين ما أردته؛ فجماليات الوحي كالمطر، تصيب محلًا قابلًا فتنبت وتزهر.
وبما أن الليل طويل، والوقت لائق بحديث المسامر، أهديكم مقطوعة تعجبني، وهي مع جمالها غير مشتهرة؛ وقد صانها رب الجمال من ابتذال عامة المتعاطين للغة.
جاءت في ترجمة فتح الله بن النحاس هذه الأبيات، أعجبني منها وصفه لخوف المحب من هجمة الرقيب، وصف لمشاعر الإقدام والإحجام لمحبّ التقى خلسة بنسخة روحه؛ يقول في قصيدة مطلعها:

" طرقَت طروق الطيف وهْنا .. ميالة الأعطاف حسنا"

إلى أن قال:
" وأقمت أنصب نحوها طَرْفـاً ونحو الباب أذْنا
أخشى يُحِـسَّ بـنـا الـنّسيـ مُ فيخبر الروض الأغنّا
ويولّد الوسواس لي جَرس الحليّ إذا أرنّا
فتـقـول مـسـكـينُ المتيّـ مُ بالـنـســـيمِ يسيءُ ظنّا
طب يافتى نفسًا فقد نامت عـيونُ الحيّ عنّا"[2]

لمثل هذا يطرب الإنسان.

——————
[1] رواه البخاري 79، ومسلم 2282
[2] نفحة الريحانة (2/ 528)، وبالمناسبة هذا الكتاب فيه ترجمة مغمورة لشيخ مذهبنا في زمانه الشيخ مرعي الكرمي -رحمه الله- (2/ 244- 250)
التداوليات [1] فرع لطيف للسانيات؛ يهتم بدلالة الكلمة من جهة الاستعمال البشري لها.
وفي هذا المسلك أحب التأمل في بعض الكلمات الدارجة ولطيف معانيها؛ كنت في اتصال مع شقيقي فقال: نلتقي آخر الأسبوع عند سيدتي الوالدة "ونتباصر".
المباصرة في دارجتنا -وسمعتها في أغلب مناطق الجزيرة العربية- تعني تداول البصيرة، كما أن المشاورة تبادل المشورة.
وقد عرفها الأستاذ الكبير عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- فقال:
"باصريني: يعني ساعديني وأنيري بصيرتي بتداول الأفكار" [2]
نحن نجالس بعض الناس لنتبادل البصائر، والبصيرة قوة القلب ونفاذ الرأي.
أحيانًا لا تحتاج من جليسك إلى معلومة؛ تريد استعارة بصيرته، أن ترى بعيني قلبه ما خفي عنك من رأي.

إذا احتجتكم في موضوع فستباصروني ككريم عادتكم.
————-
[1] يغلب على ظني أن الدكتور طه عبدالرحمن هو من سكّ مصطلح "التداولية" مقابلًا لـ "Pragmatics"؛ وكانت قبله وبعده تترجم إلى الذرائعية أو المقامية أو نحو اثني عشر مصطلح آخر أحصيتها؛ انظر ما يؤيد هذا الظن في "تجديد المنهج" ص244 ومابعدها، و "في أصول الحوار" ص28.
[2] أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب (1/ 394)
في شتاء كهذا يحسن التأمل في مجازات الدفء، ومما اعتدناه في الذاكرة الشعبية ووصايا كبار السنّ التحذير من "العود المعجج"؛ العود: قطعة الحطب، والمعجج: أي الذي يخرج العجاج -الدخان-.
أي احذر العود الرديء التي يكون ضمن حطب جيد.
ومقصودهم: الصديق الذي يؤذيك، وظاهره أنه يدفئك.
في كل مجمع علاقات بشرية عود معجج، شخصٌ يثير الدخان، يؤلم العين، لا يدفئك؛ لكنه محسوب على مجموعة أصدقائك، فإن أردت نزعه احترقت يدك، أو شئت إبقاءه استمر أذاه لعينك.
تذكرت هذا التشبيه وأنا أقلب قبل يومين "شبة ضو" شتوية؛ العود المعجج أذى يدمع العين.
للكرام هنا:
‏فتح باب التسجيل في "الاستهداء بالسنة"
‏وهو مجلس فجري يقام مرة في الأسبوع، نبدأ فيه بشرح "كتاب الأدب" من صحيح البخاري.

‏هدفه ضبط تصوراتنا في المفاهيم والأخلاق على منهاج الوحي

‏التسجيل سيغلق الإثنين الساعة التاسعة مساء بتوقيت مكة إن شاء الله.

https://forms.gle/nng35g3jnBVrf71W6
Forwarded from حامد||••
بسم الله الرحمن الرحيم
مرحبًا بالأستاذ الأديب حامد المالكي في عالم قنوات التلغرام.

https://www.tg-me.com/Hamed111ju
الليلة بإذن الله دردشة عامة حول "السكينة القرآنية"
‏الساعة العاشرة بتوقيت مكة بإذن الله.

‏على صفحة الفيسبوك

https://www.facebook.com/Badrth313
ستبث أيضًا على اليوتيوب بإذن الله
2024/06/27 19:10:16
Back to Top
HTML Embed Code: