Telegram Group Search
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
*قصة الأندلس من الفتح حتى السقوط*
الحلقة (126)

*مملكة غرناطة*

*الصراع في غرناطة*

*غرناطة قبل النهاية*

قبل السقوط بست وعشرين سنة تقريبًا، وفي سنة (871هـ= 1467م) كان يحكم غرناطة في ذلك الوقت رجل يُدعى علي بن سعد بن محمد بن الأحمر، والذي كان يُلَقّب بالغالب بالله على عادة ملوك الغرناطيين[1]، وكان له أحد الإخوة يُعرف بأبي عبد الله محمد الملقب بالزغل (الزغل يعني الشجاع) ، فكان الأول غالب بالله، وكان الثاني زغلاً أو شجاعًا[2].

وكما حدث في عهد ملوك الطوائف اختلف هذان الأخَوان على الحُكم، وبدآ يتصارعان على مملكة غرناطة الهزيلة الضعيفة، والمحاطة في الشمال بمملكتي قشتالة وأراجون النصرانيتين.

وكالعادة -أيضًا- استعان أبو عبد الله محمد الزغل بملك قشتالة في حرب أخيه الغالب بالله، وقامت على إثر ذلك حرب بينهما، إلا أنها قد انتهت بالصلح، لكنهما -ويا للأسف- قد اصطلحا على تقسيم غرناطة إلى جزء شمالي على رأسه الغالب بالله وهي الولاية الرئيسة، وجزء جنوبي وهي مالقة ومعها بعض الولايات الأخرى، وعلى رأسها أبو عبد الله محمد الزغل[3].

وبعد هذا التقسيم بثلاثة أعوام، وفي سنة (874هـ= 1469م) يحدث أمر غاية في الخطورة في بلاد الأندلس، فقد تزوَّج فرناندو الخامس ملك أراغون من إيزابيلا وريثة عرش قشتالة؛ وبذلك تكون الدولتان قد اصطلحتا معًا، وأنهتا صراعًا كان قد طال أمده، ولم يأتِ عام (1479م) إلاَّ وكانت المملكتان قد توحدتا معًا في مملكة واحدة هي مملكة إسبانيا، وكانت هذه بداية النهاية لغرناطة.

*صراع داخل بلاط غرناطة*

كانت غرناطة سنة (879هـ= 1474م) منقسمة إلى شطرين؛ شطر مع الزغل، والآخر مع الغالب بالله، وفي هذه الأثناء حدث سيل عظيم في غرناطة، «ومن وقت هذا السيل العظيم بدأ ملك الأمير أبي الحسن في التقهقر والانتكاس والانتقاض؛ وذلك أنه اشتغل باللذات والانهماك في الشهوات واللهو بالنساء المطربات، وركن إلى الراحة والغفلات، وضيع الجند وأسقط كثيرًا من نجدة الفرسان، وثقّل المغارم وكثّر الضرائب في البلدان، ومكّس الأسواق ونهب الأموال، وشحّ بالعطاء إلى غير ذلك من الأمور التي لا يثبت معها الملك، وكان للأمير أبي الحسن وزير يُوافقه على ذلك، ويظهر للناس الصلاح والعفاف، وهو بعكس ذلك...

فمن جملة انهماكه أنه اصطفى على زوجته روميَّة اسمها ثريا، وهجر ابنة عمه وأولادها منه... فبقيت الحال كذلك مدة والأمير مشتغل باللذات منهمك في الشهوات، ووزيره يضبط المغارم ويثقلها، ويجمع الأموال ويأتيه بها، ويعطيها لمن لا يستحقها، ويمنعها عمن يستحقها، ويهمل كل من فيه نجدة وشجاعة من الفرسان، ويقطع عنهم المعروف والإحسان، حتى باع الجند ثيابهم وخيلهم وآلات حربهم، وأكلوا أثمانها وقتل كثيرًا من أهل الرأي والتدبير والرؤساء والشجعان من أهل مدن الأندلس وحصونها، ولم يزل الأمير مستمرًّا على حاله والجيش في نقص، والملك في ضعف، إلى أن انقضى الصلح الذي كان بينه وبين النصارى، فلم يشعر بهم أحد حتى دخلوا مدينة الحمة...» [4].

*كان السلطان الغرناطي قد ركن إلى الخلافات التي نشبت بين رؤساء النصاري، وما وقع بينهم من حروب؛ «فبعضهم استقل بملك قرطبة وبعض بإشبيلية، وبعض بشريش، وعلى ذلك كان صاحب غرناطة السلطان أبو الحسن قد استرسل في اللذات، وركن الى الراحات، وأضاع الأجناد، وأسند الأمر إلى بعض وزرائه، واحتجب عن الناس، ورفض الجهاد، والنظر في الملك ليقضي الله تعالى ما شاء، وكثرت المغارم والمظالم، فأنكر الخاصة والعامة ذلك منه، وكان -أيضًا- قد قتل كبار القواد وهو يظن أن النصارى لا يغزون بعدُ البلاد، ولا تنقضي بينهم الفتنة ولا ينقطع الفساد، واتُّفق أن صاحب قشتالة تَغَلَّب على بلادها بعد حروب، وانقاد له رؤساء الشرك المخالفون، ووجدت النصارى السبيل إلى الإفساد، والطريق إلى الاستيلاء على البلاد*»[5].]

*عائشة الحرة*

كان الغالب بالله الذي يحكم غرناطة متزوجًا من امرأة تُدعى عائشة، وقد عرفت في التاريخ بعائشة الحرة، وكانت له جارية نصرانية تُسمى ثريا قد فُتن بها وغرق في عشقها[6]، «فمن جملة انهماكه أنه اصطفى على زوجته روميَّة اسمها ثريا، وهجر ابنة عمه وأولادها منه، فأدرك ابنة عمه من الغيرة ما يدرك النساء على أزواجهن، ووقع بينهما نزاع كثير، وقام الأولاد محمد ويوسف مع أمهما، وغلظت العداوة بينهم، وكان الأمير أبو الحسن شديد الغضب والسطوة؛ فكانت الأم تخاف على ولديها منه، فبقيت الحال كذلك مدة، والأمير مشتغل باللذات منهمك في الشهوات... وفي هذا اليوم (27 جمادى الأولى 887هـ) بلغ الخبر لمن كان في لوشة أن ابني الأمير أبي الحسن محمدًا ويوسف هربا من القصبة خوفًا من أبيهما؛ وذلك أن شياطين الإنس صاروا يوسوسون لأمهما ويخوفونها عليهما من سطوة أبيهما، ويغوونها مع ما كان بينها وبين مملوكة أبيهما الرومية ثريا من الشحناء، فلم يزالوا يغوونها حتى سمحت لهم بهما، فاحتالت عليهما بالليل، وأخرجتهما إليهم، وساروا بهما إلى وادي آش، فقام أهل وادي آش
بدعوتهما، ثم قامت غرناطة -أيضًا- بدعوتهما، واشتعلت نار الفتنة ببلاد الأندلس، ووقعت بينهم حروب وكوائن أعرضنا عن ذكرها لقبحها؛ لأن الآمر آل بينهم إلى أن قتل الوالد ولده، ولم تزل نار الفتنة مشتعلة وعلاماتها قائمة في بلاد الأندلس والعدو -دمره الله- مع ذلك كله مشتغل بحيلته في أخذ الأندلس»[7].

ويعرض لنا الأستاذ محمد عبد الله عنان هذا الأمر في أسلوب قصصي شائق مستعينًا فيه بالروايات العربية والقشتالية، فيقول: «تحتل شخصية عائشة الحرة في حوادث سقوط غرناطة مكانة بارزة، وليس ثمة -في تاريخ تلك الفترة الأخيرة من المأساة الأندلسية- شخصية تثير من الإعجاب والاحترام، ومن الأسى والشجن قدر ما يثير ذكر هذه الأميرة النبيلة الساحرة، التي تذكرنا خلالها البديعة ومواقفها الباهرة، وشجاعتها المثلى إبان الخطوب المدلهمة بما نقرأه في أساطير البطولة القديمة من روائع السير والمواقف...كانت عائشة الحرة ملكة غرناطة في ظلِّ مُلك يحتضر، ومجد يشع بضوئه الأخير ليخبو ويغيض.... وكانت عائشة ترى من الطبيعي أن يئول الملك إلى ولدها، ولكن حدث بعد ذلك ما يهدد هذا الأمل المشروع؛ ذلك أن السلطان أبا الحسن ركن في أواخر أيامه إلى حياة الدعة، واسترسل في أهوائه وملاذه، واقترن للمرة الثانية بفتاة نصرانية رائعة الحُسن، تعرفها الرواية الإسلامية باسم «ثريا» الرومية، وتقول الرواية الإسبانية: إن ثريا هذه واسمها النصراني إيسابيلا... فهام بها السلطان أبو الحسن، ولم يلبث أن تزوجها، واصطفاها على زوجه الأميرة عائشة، التي عُرفت عندئذ بـ«الحرة»؛ تمييزًا لها عن الجارية الرومية، أو إشادة بطهرها ورفيع خلالها...

وكان السلطان أبو الحسن قد شاخ يومئذٍ، وأثقلثه السنون، وغدا أداة سهلة في يد زوجه الفتية الحسناء، وكانت ثريا فضلاً عن حسنها الرائع فتاة كثيرة الدهاء والأطماع، وكان وجود هذه الأميرة الأجنبية في قصر غرناطة، واستئثارها بالسلطان والنفوذ في هذه الظروف العصيبة، التي تجوزها المملكة الإسلامية عاملاً جديدًا في إذكاء عوامل الخصومة والتنافس الخطرة. وكانت ثريا في الواقع تتطلع إلى أبعد من السيطرة على الملك الشيخ؛ ذلك أنها أنجبت من الأمير أبي الحسن كخصيمتها عائشة ولدين؛ هما: سعد ونصر، وكانت ترجو أن يكون الملك لأحدهما، وقد بذلت كل ما استطاعت من صنوف الدس والإغراء لإبعاد خصيمتها الأميرة عائشة عن كل نفوذ وحظوة، وحرمان ولديها محمد ويوسف من كل حق في الملك، وكان أكبرهما أبو عبد الله محمد ولي العهد المرشح للعرش، وكان أشراف غرناطة يؤثرون ترشيح سليل بيت الملك على عقب الجارية النصرانية، ولكن ثريا لم تيأس ولم تفتر همتها، فما زالت بأبي الحسن حتى نزل عند تحريضها ورغبتها، وأقصى عائشة وولديها عن كل عطف ورعاية، ثم ضاعفت ثريا سعيها ودسها حتى أمر السلطان باعتقالها، وزجت عائشة مع ولديها إلى برج قمارش أمنع أبراج الحمراء، وشدد في الحجر عليهم، وعوملوا بمنتهى الشدة والقسوة.

فأثار هذا التصرف غضب كثير من الكبراء، الذين يؤثرون الأميرة الشرعية وولديها بعطفهم وتأييدهم، وكان نذير الاضطراب والخلاف في المجتمع الغرناطي، وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين خصيمين؛ فريق يؤيد الأميرة الشرعية وولديها، وفريق يؤيد السلطان وحظيته، واستأثر الفريق الأخير بالنفوذ مدى حين، واضطرمت الأهواء والشهوات والأحقاد، واشتدَّ السخط على أبي الحسن وحظيته التي أضحت سيدة غرناطة الحقيقية، واستأثرت بكل سلطة ونفوذ. وذهبت ثريا في طغيانها إلى أبعد حدٍّ، فحرضت الملك الشيخ على إزهاق ولده أبي عبد الله عثرة آمالها.

وكانت الأميرة عائشة امرأة وافرة العزم والشجاعة، فلم تستسلم... بل عمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها، وفي مقدمتهم بنو سراج أقوى أسر غرناطة، وأخذت تُدَبِّر معهم وسائل الفرار والمقاومة؛ ولم يغفر السلطان أبو الحسن لبني سراج هذا الموقف قط. ويقال: إنه عمد فيما بعد إلى تدبير إهلاكهم في إحدى أبهاء الحمراء. ولما وقفت الأميرة عائشة من أصدقائها على نية أبي الحسن، قررت أن تبادر بالعمل، وأن تغادر قصر الحمراء مع ولديها بأية وسيلة، وفي ليلة من ليالي جمادى الثانية سنة (887هـ=1482م) استطاعت الأميرة أن تفر مع ولديها محمد ويوسف...

وكان اسم عائشة ورفيع خلالها، وقصة فرارها الجريء تثير أيما عطف وإعجاب، وظهر ولدها الأمير الفتى أبو عبد الله محمد في وادي آش حيث مجمع عصبته وأنصاره، وكان السلطان أبو الحسن وقت فرار الأميرة وولديها بعيدًا عن غرناطة، يدافع النصارى عن أسوار لوشة، وكانت الحوادث تسير بسرعة مؤذنة باضطرام عاصفة جديدة»[8].
#قصة_الأندلس
#تاريخ_الأندلس
______
د.راغب السرجاني
[1] كان محمد بن يوسف بن نصر مؤسس هذه الدولة بغرناطة يلقب أيضًا بـ «الغالب بالله»، وهكذا كان أبو عبد الله محمد بن علي آخر ملوك غرناطة، والذي عُرف في التاريخ الإسباني من بعد بـ« الملك الصغير»، وكان يُلقب بـ « الغالب بالله»، ويُعلق الأستاذ محمد عبد الله عنان على ذلك بقوله، 7/288: «وهي شعار سائر ملوك غرناطة».
[2] ينبغي أن نسجل هنا شكرًا بالغًا للمجهود الرائع الذي بذله الأستاذ محمد عبد الله عنان في التأريخ لهذه الفترة، وهو يُعَدُّ مصدرًا رئيسًا لها، فهذه الفترة تعاني ندرة في المصادر العربية، وقد بذل الأستاذ عنان جهدًا مبكرًا في جمع وتحليل الروايات القشتالية والإفرنجية المتاحة، كما قد عثر على وثائق كثيرة في شكل مخطوطات عربية وإفرنجية في رحلاته لإسبانيا والمغرب، وغيرها من المدن الأندلسية القديمة والمغاربية أيضًا، ولا يكاد يخلو كتاب -أرَّخ لهذه الفترة بعدَه- من الاعتماد على ما أتى به.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/194.
[4] مجهول: نبذة العصر، ص45- 50.
[5] المقري: نفح الطيب، 4/511، 512.
[6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/200.
[7] مجهول: نبذة العصر، ص46-62، وانظر أيضًا: المقري: نفح الطيب، 4/512- 514.
[8] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/196- 201.
〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️
للاطلاع على الأجزاء السابقة:
*https://www.tg-me.com/اقرأ التاريخ/com.iqra_history*
〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️
#التاريخ_الإسلامي
#قصة_الأندلس
#التاريخ_الأندلسي
#الفردوس_المفقود
#تاريخ_سِيَر_تراجم_أخبار
#اقرأ_التاريخ
*قصة الأندلس من الفتح حتى السقوط*
الحلقة (127)

*مملكة غرناطة*

*حصار غرناطة*

*فرناندو الخامس واستغلال النزاع والفرقة*

حيال هذا الوضع الذي آل إليه حال المسلمين في الأندلس استغل فرناندو الخامس هذا الموقف جيدًا لصالحه، وبدأ يهاجم حصون غرناطة؛ حيث كان يعلم أن هناك خلافًا وشقاقًا كبيرًا داخل البلد، فدارت المعارك بين المسلمين والقشتاليين على أكثر من جبهة، استطاع المسلمون الانتصار في بعضها، وانهزموا في البعض الآخر، وهذه الهزائم لم تكن لقوة عدوهم بقدر ما كانت للضعف الذي كان قد وصلت إليه مملكتهم، نتيجة لاستمراء أميرهم لحياة الدعة والراحة، أما الشعب فإنه كان متحفزًا للدفاع عن نفسه تحفزًا كبيرًا، ثم تتابعت الأحداث، إذ قامت ثورة وضعت أبا عبد الله محمدًا في السلطة، وفرَّ أبوه إلى الزغل في مالقة، وهناك ومن مالقة كان الزغل يدفع النصارى عنها أشد دفاع، واستطاع –بعون الله- رد النصارى بعد هزائم شديدة مريرة، فقدوا فيها الكثير ومنهم بعض زعمائهم، كما فقدوا فيها الكثير من العُدد والآلات، فنشط أبو عبد الله هو الآخر لغزو النصارى، وغزاهم بالفعل واستطاع أن ينتصر عليهم... وأن يتوغل في بلادهم، وأثناء عودته من هناك محملاً بالغنائم، قطع عليه النصارى طريق عودته، ودارت بين الفريقين معركة قرب إلياسنة هُزم فيها المسلمون، وأُسر ملكهم أبو عبد الله محمد الصغير[1].

*وبعد أَسْر الصغير عاد أبوه الزغل لحكم غرناطة، فأصبحت من جديد إمارة واحدة تحت حكم الزغل، غير أن المرض كان قد هدَّه وذهب ببصره؛ إذ أُصيب بمرض شبه الصرع، وأصيب في بصره، وأصابه خدر في جسده، وعاقبه الله تعالى بأنواع من البلاء؛ فتنازل عن الملك لأخيه محمد بن سعد، وحُمل إلى مدينة المنكب فأقام بها حتى مات*[2].

وبذل أبو الحسن حين عوده إلى العرش جهده لافتداء ولده، لا بباعث الحب له والشفقة عليه، ولكن لكي يحصل في يده ويأمن شره ومنافسته، وعرض على فرناندو نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة، وأن يُطلق عددًا من أكابر النصارى المأسورين عنده، فأبى فرناندو، وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين، وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهودًا آخر لإنقاذ ولدها، بمؤازرة الحزب الذي يناصره، وأرسلت إلى ملك قشتالة سفارة على رأسها الوزير ابن كماشة؛ ليفاوض في الإفراج عن الأسير مقابل الشروط التي يرضاها، وانتهت المفاوضات بين الفريقين بعقد معاهدة سرية تتلخص نصوصها فيما يلي: أن يعترف أبو عبد الله بطاعة الملك فرناندو وزوجه إيزابيلا، وأن يدفع لهما جزية سنوية قدرها اثنا عشر ألف دوبلا من الذهب، وأن يُفرج في الحال عن أربعمائة من أسرى النصارى الموجودين في غرناطة يختارهم ملكهم، ثم يطلق بعد ذلك كل عام سبعين أسيرًا لمدة خمسة أعوام، وأن يُقَدِّم أبو عبد الله ولده الأكبر رهينة مع عدد آخر من أبناء الأمراء والأكابر ضمانًا بحسن وفائه. وتعهَّد الملكان الكاثوليكيان من جانبهما بالإفراج عن أبي عبد الله فورًا، وألا يكلف في حكمه بأي أمر يخالف الشريعة الإسلامية، وأن يعاوناه في افتتاح المدن الثائرة عليه في مملكة غرناطة، وهذه المدن متى تم فتحها، تغدو واقعة تحت طاعة ملك قشتالة، وأن تستمر هذه الهدنة لمدة عامين من تاريخ الإفراج عن السلطان الأسير»[3].

*فرناندو واحتلال مالقة ووادي آش*

كان على الساحة الآن «الصغير» ومعه ولاية غرناطة، والزغل ومعه وادي آش، ثم ملك إسبانيا وتحت قبضته مالقة، واستكمالاً لآمال كان قد عقدها قديمًا، وفي سنة (895هـ= 1490م) انطلق ملك إسبانيا من مالقة إلى ألمرية على ساحل البحر المتوسط، واستولى على كل ما في طريقه إليها من مدن وحصون، ثم تمَّ تسليم ألمرية له بعد ذلك، وقد دافع المسلمون عن مدنهم أشد دفاع وأسناه، ولكن فارق الإمكانيات لم يساعدهم، ولم يحل شيء دون وقوع المصير المحتوم[4].

*ثم منها توجه إلى وادي آش (التي هي في يد الزغل) فاستولى عليها، بعد أن رأى الزغل أنه قد أحيط به، وأنه ما عاد يستطيع الدفع عن بلاده، وبعد أن استنجد بمن استطاع الاستنجاد به من ملوك المسلمين*[5].

*حصار غرناطة*

كان الوضع الآن أن حوصرت مدينة غرناطة وكل قراها ومزارعها من كل مكان بجيوش النصارى، أحاطوها من الشرق ومن الغرب ومن الشمال ومن الجنوب، وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ قال: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فقال قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن. قال: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»[6].
فقد تداعت ملوك النصارى حول مملكة غرناطة الصغيرة والضعيفة جدًّا في ذلك الوقت، واستولى ملك إسبانيا (قشتالة وأرجون متحدتين) على برجين: برج ملاحة غرناطة، وبرج قرية همدان، وكانا برجين كبيرين حصينين، فزادهما تحصينًا وشحنهما بالرجال، وما يحتاج إليه من آلة الحرب؛ ليضيق على أهل غرناطة؛ لأنهم كانوا قريبين منهما، فضيَّق بذلك عليهم أشدَّ الضيق.

*معاهدة تسليم غرناطة*

وفي أول عام (985هـ= ديسمبر 1489م) وحسبما تُشير بعض الوثائق، تم صلح جديد، «حسبما تدل على ذلك وثيقة صادرة عن أبي عبد الله نفسه في المحرم سنة 895هـ (ديسمبر سنة 1489)، وهي عبارة عن خطاب موجه منه إلى قادة وأشياخ بلدة أجيجر، وفيه يُنَوِّه أبو عبد الله بهذا (الصلح السعيد) المعقود لعامين، ويدعو إلى الدخول فيه... وبالرغم من أننا لا نعرف نصوص هذا الصلح مفصَّلة، فإن بعض الروايات القشتالية تذكر لنا أن أبا عبد الله قد تعهد في هذا الصلح بأن يُسَلِّم مدينة غرناطة للملكين الكاثوليكيين، متى تمَّ تسليم بسطة وألمرية ووادي آش. وعلى أي حال ففي فاتحة سنة 1490م ( أوائل صفر 895هـ) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى السلطان أبي عبد الله سفارة لتخاطبه في موضوع التسليم... ولم يطلب (ملك قشتالة) تسليم غرناطة ذاتها، ولكن طلب تسليم مدينة الحمراء مقر الملك والحكم.

*فماذا كان جواب أبي عبد الله*؟

لقد كان في سابق مواقفه ما يحمل الملكين الكاثوليكيين على توقُّع استسلامه وخضوعه، ولكن حدث عكس ما توقعه الملكان؛ إذ أرسل إليهما القائد أبا القاسم المليح برسالة (بتاريخ 29 صفر سنة 895هـ= 22 يناير سنة 1490م)؛ وبالرغم من اللهجة المهذبة المقرونة بعبارات الخضوع والطاعة التي اختتمت بها الرسالة، فقد كان فحواها هو الرفض. لكن الملكان الكاثوليكيان أصرَّا على طلبهما، فاعتزم أبو عبد الله أن يشهر عليهما الحرب، لولا أن نصحه بعض الأكابر بالروية والتريث. فأرسل وزيره يوسف بن كُماشة ومعه تاجر كبير من سراة غرناطة، له علائق طيبة مع النصارى يدعى إبراهيم القيسي إلى الملكين الكاثوليكيين في إشبيلية؛ لإقناعهما بالعدول عن مطلبهما، ولكنهما عادا خائبين، وعلى ذلك استؤنفت الحرب بين المسلمين والنصارى.

وهنا نقف قليلاً لنتأمل هذا الموقف الجديد من جانب أبي عبد الله؛ أجل كانت الخطوب والمحن التي جازتها الأندلس في هذه الأعوام المليئة بالحوادث، قد جعلت من أبي عبد الله رجلاً آخر، وكان هذا الأمير الضعيف يرقب سير الحوادث جزعًا، ويستشف من ورائها القدر المحتوم، وكان قد تخلَّص بانسحاب عمه من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في الوقت نفسه أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وكانت سائر قواعد الأندلس الأخرى قد غدت نهائيًّا من أملاك مملكة قشتالة، وعيّن لها حكام من النصارى، وتدجن مَن بقي من أهلها، أو غدوا مدجَّنين يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية، وارتد كثير من المسلمين حرصًا على أوطانهم ومصالحهم، أو اتقاء الريب والمطاردة، ولكن كثيرًا منهم ممن أشفقوا على أنفسهم ودينهم جازوا البحر إلى المغرب.

*وهرعت جموع غفيرة أخرى منهم إلى غرناطة معقل الإسلام الوحيد الباقي؛ حتى غدت الحاضرة تموج بسكانها الجدد، وحتى أصبحت تضمُّ بين أسوارها وأرباضها أكثر من أربعمائة ألف نفس، وكانت موجة عامة من اليأس والنقمة تغمر هذه الألوف، التي أوذيت في الأوطان والأنفس والولد والمال، دون أن تجني ذنبًا أو جريرة، وكانت فكرة التسليم للعدو الباغي أو مهادنته تلقى استنكارًا عامًّا، ولم يكن أبو عبد الله يجهل هذا الاتجاه العام، فلما وفد إليه سفيرا ملكي قشتالة في طلب التسليم، ثارت نفسه لهذا الغدر والتجني، وأدرك -وربما لأول مرة- فداحة الخطأ الذي ارتكبه في محالفة هذا الملك الغادر، ومعونته على بني وطنه ودينه، ولما أصرَّ فرناندو على تجنيه جمع أبو عبد الله الكبراء والقادة، فأجمعوا على رفض ما طلبه الملكان النصرانيان، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم، وأبلغ أبو عبد الله ملك قشتالة بأنه لم يَعُدْ له القول والفصل في هذا الأمر، وأن الشعب الغرناطي يأبى كل تسليم أو مهادنة، ويُصَمِّم على المقاومة والدفاع. هكذا كان جواب أبي عبد الله لملكي قشتالة، وهكذا حمل الأمير الضعيف -بعزم شعبه- من الاستكانة والمهادنة إلى التحدي والمقاومة*»[7].

وما أن علم ملك قشتالة بامتناع أبي عبد الله عن التسليم ذهب إلى غرناطة، وحاصرها، فحاربه المسلمون وبرز إليه الأمير أبو عبد الله محمد، وصمد المسلمون في وجه الطاغية صمودًا بطوليًّا رده –بفضل الله- خائبًا خاسرًا إلى بلاده، وما أن ذهب حتى بدأ المسلمون بقيادة أبي عبد الله يغزون البلاد النصرانية المحيطة، ويساعدون الثوار المسلمين في البلاد التي استولى عليها النصارى قريبًا، وقد استطاعوا بالفعل الاستيلاء على عدد من الحصون والمدن القريبة والمهمة، ثم عاد الطاغية لمحاصرة غرناطة، ورده الله دون أن ينال منها شيئًا، ورجع المسلمون لغزواتهم، وهكذا حتى
جاءهم الطاغية محاصرًا للمرة الثالثة، وكله تصميم على ألا يرحل هذه المرة عن غرناطة إلا بعد فتحها، ولعل أحد أسباب تصميمه هذا هو خوفه من هذا النشاط الذي ظهرت به غرناطة في فترتها الأخيرة، على أن غرناطة لم تستسلم لهذا الحصار، وعملت على كسره ضاربة بذلك أروع أمثلة البطولة والفروسية، بل كانت سرايا المسلمين تخرج للعبث في البلاد النصرانية القريبة[8].
#قصة_الأندلس
#تاريخ_الأندلس
______
د.راغب السرجاني
[1] مجهول: نبذة العصر، ص50-67، والمقري: نفح الطيب، 4/512-515، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/201- 203، ومحمود علي مكي: التاريخ السياسي للأندلس ص134، منشور في الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، تحرير: سلمى الخضراء الجيوسي.
[2] مجهول: نبذة العصر ص67، 68، والمقري: نفح الطيب، 4/515، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/204.
[3] محمد عبد الله عنان في دولة الإسلام في الأندلس، 7/204، 205.
[4] مجهول: نبذة العصر، ص98، والمقري: نفح الطيب، 4/522، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/226، 227.
[5] مجهول: نبذة العصر، ص99- 101، والمقري: نفح الطيب، 4/522، 524، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/227، 228.
[6] أبو داود: كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام 4297، وقال الألباني: صحيح.
[7] مجهول: نبذة العصر، ص102، 103، والمقري: نفح الطيب، 4/523. ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/229- 232، ونقلنا عن هذا المصدر الأخير باختصار.
[8] مجهول: نبذة العصر، ص103- 117، والمقري: نفح الطيب، 4/ 523، 524، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/232-236.
〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️
للاطلاع على الأجزاء السابقة:
*https://www.tg-me.com/اقرأ التاريخ/com.iqra_history*
〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️
#التاريخ_الإسلامي
#قصة_الأندلس
#التاريخ_الأندلسي
#الفردوس_المفقود
#تاريخ_سِيَر_تراجم_أخبار
#اقرأ_التاريخ
*قصة الأندلس من الفتح حتى السقوط*
الحلقة (128)

*مملكة غرناطة*

*موسى بن أبي غسان .. آخر مجاهدي الأندلس*

*غرناطة .. حصار حتى الموت*

برز في هذا الحصار الأخير داخل غرناطة حركة جهادية بارزة على رأسها رجل يُسمى موسى بن أبي غسان، فكان أن حرَّك الجهاد في قلوب الناس، وبدأ يُحَمِّسهم على الموت في سبيل الله، وعلى الدفاع عن بلدهم وهويتهم، فاستجاب له الشعب وتحرك للدفاع عن غرناطة[1].

وطيلة سبعة أشهر كاملة ظل أصحاب الانتفاضة في دفاعهم عن حصون غرناطة ضد الهجمات النصرانية الشرسة، وإليك طرفًا من هذا الصمود يحكيه الفارس المعاصر صاحب كتاب نبذة العصر:

«*رجع ملك قشتالة إلى فحص غرناطة، ونزل بمحلته بقرية عتقة، ثم شرع في البناء، فبنى هنالك سورًا كبيرًا في أيام قلائل، وصار يهدم القرى، ويأخذ ما فيها من آلة البناء، ويجعله على العجل، ويحمله إلى ذلك البلد الذي بناه، ويبني به، وهو مع ذلك يقاتل المسلمين ويقاتلونه قتالاً شديدًا، وحارب ملك الروم -أيضًا- أبراج القرى الدائرة بغرناطة وأخذها، ولم يبق إلا قرية الفخار، فلم يزل يُلِحُّ عليها ويجلب عليها بخيله ورجله، ويطمع أن يجد فرصة فلم يقدر على شيء، حتى قتل له عليها خلق كثير من الروم، ووقعت عليها ملاحم كثيرة بين المسلمين والنصارى؛ لأن المسلمين كانوا يُلِحُّون على حمايتها خوفًا من أن يملكها الروم؛ فتكون سببًا في إخلاء قرى الجبل وحصار البلد، فلم يزالوا يدافعون عنها ويقاتلون مَنْ قصدها؛ حتى قصر عنها العدو؛ لكثرة ما قُتل له عليها من خيل ورجال*.

ولم تزل الحرب متصلة بين المسلمين والنصارى كل يوم؛ تارة في أرض الفخار، وتارة في أرض بليانة، وتارة في أرض رسانة، وتارة في أرض طفير، وتارة في أرض يعمور، وتارة في أرض الجدوى، وتارة في أرض رملة أفلوم، وتارة في أرض الربيط، وتارة وادي منتثيل، وغير ذلك من المواضع التي على غرناطة، وفي كل ملحمة من هذه الملاحم يثخن كثير من أنجاد الفرسان بالجراحات من المسلمين، ويستشهد آخرون، ومن النصارى أضعاف ذلك، والمسلمون فوق ذلك صابرون محتسبون، واثقون بنصر الله تعالى، يقاتلون عدوهم بنية صادقة وقلوب صافية، ومع ذلك يمشي منهم الرجال في ظلام الليل لمحلة النصارى، ويتعرضون لهم في الطرقات، فيغنمون ما وجدوا من خيل وبغال وحمير وبقر وغنم ورجال، وغير ذلك حتى صار اللحم بالبلد من كثرته: رطل بدرهم.

*ومع ذلك لم تزل الحرب متصلة بين المسلمين والنصارى، والقتل والجراحات فاشيان في الفريقين سبعة أشهر، إلى أن فنيت خيل المسلمين بالقتل، ولم يبقَ منها إلا القليل، وفني -أيضًا- كثير من نجدة الرجال بالقتل والجراحات*»[2].

إلاَّ أن البسالة وحدها لا تكفي في ظلِّ وضع كهذا؛ إذ المسلمون محاصرون داخل المدينة ولا يمكنهم الحصول على الإمدادات، فيما النصاري يحاصرونهم من الخارج، وخطوط الإمدادات مفتوحة من بلادهم، ولا سيما أن الحرب دفعت بكثير من الغرناطيين إلى الخروج من البلدة، بما انتهبها من الخوف والفزع، وتبعات الحرب المتواصلة، فظلت غرناطة تضعف شيئًا فشيئًا، ثم لما دخل فصل الشتاء ونزلت الثلوج أصابت طريق البشرة -الذي كانت الأطعمة تأتي عبره إلى غرناطة- فقل الطعام عند ذلك في أسواق المسلمين في غرناطة، واشتد الغلاء وأدرك الجوع كثيرًا من الناس وكثر السؤال.

*تسليم غرناطة*

وهنا لم يكن أمام الغرناطيين إلا التسليم بالأمان، فذهب جمع منهم إلى ملكهم محمد؛ طالبين منه أن يفاوض ملك قشتالة على التسليم بالأمان، وقد أورد صاحب نبذة العصر ما يُفيد بأن التسليم كان رغبة قائمة في نفس محمد الصغير من قبل، إلاَّ أنه خاف من العامة، فكان يُراسل ملك قشتالة سرًّا، ولهذا قطع ملك قشتالة الحرب فترة، وبقي على ما هو فيه من الحصار والتشديد، منتظرًا جهود محمد الصغير في إقناع العامة بالتسليم بالأمان، فلما أثمرت جهوده مع العامة، وذهب وفدهم إليه، سارع مستجيبًا لهم، ثم سارع مرسلاً وزراءه إلى ملك قشتالة، الذي سارع بدوره بالقبول[3].

*ونحن نذهب إلى قبول هذه الرواية وترجيحها، لا سيما وأن سيرة ملك غرناطة وطبيعة وزرائه تدفعنا لإسائة الظن بهم، ثم وجدنا الأستاذ محمد عبد الله عنان يوافق هذه الرواية –بعدما كان يرتاب فيها- لما ظهر من وثائق فيما بعدُ؛ أفادت بأن مساعي كانت تُبْذَل في الخفاء لتحقيق ما يمكن من الضمانات والمغانم الخاصة لأبي عبد الله وأسرته ووزرائه، فعُقدت معاهدة سرية مُنح فيها أبو عبد الله وأفراد أسرته ووزرائه منحًا خاصة بين ضياع وأموال نقدية وحقوق مالية وغيرها، هذا بخلاف الأملاك التي كانوا يملكونها وتصرفوا فيها بالبيع، منذ بدأت الحوادث تتجهم في غرناطة*[4].

*حركة الجهاد في غرناطة*
واستقرَّ الأمر على تسليم غرناطة بالأمان، يروي المقري فيقول: «ثم عددوا مطالب وشروطًا، أرادوها وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش؛ منها أن صاحب رومة يوافق على الالتزام والوفاء بالشرط إذا أمكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون، ويحلف على عادة النصارى في العهود... وكانت الشروط سبعة وستين؛ منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، ومنها: إقامة شريعتهم على ما كانت، ولا يحكم أحد عليهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم، ولا يغصبوا أحدًا، وأن لا يولى على المسلمين إلا مسلم أو يهودي ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم... وأن يفك جميع من أسر في غرناطة من حيث كانوا، وخصوصًا أعيانًا نصَّ عليهم، ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا سواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان، لا يلزمهم إلا الكراء، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء، وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن مَنْ تَنَصَّر من المسلمين يوقف أيامًا حتى يظهر حاله، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد، ولا يعاتب على مَنْ قَتل نصرانيًّا أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى، ولا يسفر لجهة من الجهات، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولا يدخل مسجدًا من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصلٍّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منه يعاقب، ويتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره»[5].

*موسى بن أبي غسان*

في رد فعل طبيعي وصريح له حيال ما حدث وقف موسى بن أبي غسان -رحمه الله- في قصر الحمراء وقال: لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة مَلِكِهم؛ إن الموت أقل ما نخشى (يُريد أن هناك ما هو أصعب من الموت)؛ فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله! لن أراه[6].

يُريد موسى بن أبي غسان أنه لن يرى كل هذا الذُّل، الذي سيحل بالبلاد جراء هذا التخاذل والتقاعس، وأنه اختار الموت الشريف، ثم غادر المجلس وذهب إلى بيته ولبس سلاحه وامتطى جواده.

وانطلق يقابل سرية من سرايا النصارى، وبمفرده يقابل موسى بن أبي غسان خمس عشرة رجلاً من النصارى، فيقتل معظمهم، ثم يُقتل هو في سبيل الله U.[7]
#قصة_الأندلس
#تاريخ_الأندلس
______
د.راغب السرجاني
[1] يقول الأستاذ عنان: «لم نعثر في المصادر العربية التي بين أيدينا على ذكر لموسى أو أعماله؛ ومرجعنا في ذلك هو المؤرخ الإسباني كوندي، الذي يقول: إنه نقل روايته عن مصادر عربية. ولكنه كعادته لم يذكر لنا هذه المصادر، وأشار الوزير محمد بن عبد الوهاب الغساني -في رحلته- إلى من يُدعى موسى أخا السلطان حسن المتغلب عليه بغرناطة رحلة الوزير المنشورة بعناية معهد فرانكو ص13... وقصة موسى تشغل حيزًا كبيرًا في الروايات الإسبانية... ونحن ننقل هنا أقوال الرواية القشتالية عن موسى وفروسيته لا على أنها محققة من الناحية التاريخية، ولكن لأنها تقدم لنا صورًا رائعة لدفاع المسلمين عن دينهم ووطنهم وآخر قواعدهم». انتهى كلام الأستاذ عنان دولة الإسلام في الأندلس هامش 7/237، 238. والحقيقة أننا لا نتوقع أن تؤلف المصادر الإسبانية شخصية إسلامية تقود دفاعًا رائعًا عن غرناطة، بل الأقرب إلى التوقع أن توجد حركة صحوة ودفاع وجهاد قبيل فترة السقوط، وهي الحركة التي تُعَدُّ من طبائع الناس جميعًا، ولا شك أن ندرة المصادر العربية عن هذه الفترة تمثل عنصرًا سلبيًّا في مثل هذه اللحظات التاريخية، فلا نجد –لملء الفراغ- إلا أن نستنطق الرويات الأخرى ونستخدم التوقع والترجيح.
[2] مجهول: نبذة العصر ص117 وما بعدها.
[3] مجهول: نبذة العصر ص121 وما بعدها.
[4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/242.
[5] المقري: نفح الطيب، 4/524- 527، وانظر: مجهول نبذة العصر ص119 وما بعدها، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/245 وما بعدها.
[6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/254، 255.
[7] المصدر السابق، 7/255، 256، وتنهي المصادر القشتالية حياة موسى بأنه انتحر، ونحن نستبعد هذا الاحتمال في سيرة مجاهد كهذه السيرة.
〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️
للاطلاع على الأجزاء السابقة:
*https://www.tg-me.com/اقرأ التاريخ/com.iqra_history*
〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️
#التاريخ_الإسلامي
#قصة_الأندلس
#التاريخ_الأندلسي
#الفردوس_المفقود
#تاريخ_سِيَر_تراجم_أخبار
#اقرأ_التاريخ
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
#يوميات_في_التاريخ_الاسلامي
اعرف عدوك أيها المسلم   (10)
الصهيوني تيودر هرتزل

ارتبطت الحركة الصهيونية بشخصية الصحفي النمساوي اليهودي ثيودور هرتزل، زعيم الصهيونية الأول الذي ولد في المجر لأب يهودي ثري، ثم هاجرت أسرته من بودابست واستقرت في فيينا بالنمسا ونال الدكتوراه في القانون، تشبع هرتزل بالثقافة الغربية وعرف عنه إتقانه لأربع لغات  لكن لم يكن يتحدث العبرية.

اشتغل  بالكتابة الصحفية التي كان يميل إليها وعمل مراسلا لإحدى الصحف النمساوية بباريس، وكانت هذه هي البوابة التي ولج منها هرتزل عالم السياسة من خلال احتكاكه كصحفي بعديد من كبار السياسة بباريس، وعمل بشكل نشيط في هذه الفترة التي لم يكن فيها منشغلا أبدا بقضية اليهود، لكن حدثا صغيرا غير اهتمامات ثيودور هرتزل، وهي قضية ضابط فرنسي يهودي اسمه درايفوس تم اتهامه بأنه ينقل أسرارا حربية إلى ألمانيا فحوكم ونزعت رتبته العسكرية وسجن وتمت إهانته، وبعد هذا الحدث بدأ هيرتزل يكتب عن القضية اليهودية وضرورة إحداث (وطن قومي لليهود).

بدأ هيرتزل سلسلة من اللقاءات مع كبار أغنياء اليهود الذين عرفوا آنذاك بنفوذهم وثروتهم، وأتيحت له الفرصة أن يلتقي بلندن أحد أفراد عائلة روشلز اليهودي البريطاني الذي كان أغنى أغنياء العالم، وحاول من خلال أقارب روشلز أن يلتقيه لكنه لم يوفق. لم يكن تفاعل اليهود الذين التقاهم ثيودور هرتزل مشجعا لكنه لم ييأس، فقرر أن يكتب كتابه الشهير (دولة اليهود) والذي أحدث ضجة كبيرة، هذا الكتاب الذي أشار فيه إلى أنه ما دام اليهود تجارا وأوربا رأسمالية فسيتعرضون للاضطهاد بسبب المنافسة، ولذلك طالب بإحداث دولة يهودية ينتقل إليها اليهود للعيش فيها بشكل آمن. بعد هذا الكتاب نجح ثيودور هرتزل في كسب تعاطف اليهود ودعمهم المعنوي والمادي.
  
 
دعا هرتزل إلى عقد مؤتمر يضم ممثلين لليهودية الأوروبية بمدينة بازل بسويسرا، وعقد المؤتمر بالفعل عام 1897، وانتخب ثيودور هرتزل رئيسا للمؤتمر ثم رئيسا للمنظمة الصهيونية التي أعلن المؤتمر عن تكوينها، وقرر المؤتمر الصهيوني الأول السعي للحصول على موافقة دولية للحصول على تأييد لهجرة اليهود إلى فلسطين تمهيدا لإقامة دولة يهودية هناك.

وفي خضم بحثه عن الدعم الأوربي للحصول على تأييد ودعم دوليين للحصول على وطن بفلسطين، عمل هرتزل على لقاء مجموعة من الزعماء السياسيين، التقى بمستشار القيصر الألماني لمحاولة إقناع ألمانيا بدعمه، لكن لم يكن هناك أي تفاعل جدي من طرف المستشار ما دام القرار بيد القيصر، اتجه ثيودور هرتزل بعدها نحو روسيا التي بالإضافة لكونها قوية فقد كانت تحتضن داخلها عددا كبيرا من اليهود والتقى بوزير المالية الروسي واقترح عليه الضغط على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني للسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين التي كانت تابعة آنذاك للإمبراطورية العثمانية لكن طلبه قوبل بالرفض.

 
اتجه ثيودور هرتزل نحو الحكومة البريطانية بلندن والتي احتفت به ودعمته، وما يفسر هذا هو الأطماع الاقتصادية لبريطانيا، خصوصا أن اليهود معروفون بأموالهم الكثيرة ما سيساعد بريطانيا في أزماتها المالية، ناهيك عن كون فلسطين تابعة للإمبراطورية العثمانية أحد أشد أعداء بريطانيا، وبالتالي فاحتلال اليهود لها سيكون ضربة موجعة للإمبراطورية.
 
اتجه هرتزل نحو اسطنبول والتقى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني رحمه الله وعرض عليه عرضا مباشرا بأن يشتري جزءا من فلسطين مقابل سداد الديون الكثيرة للإمبراطورية العثمانية، إضافة إلى أموال كبيرة خاصة فقط بالسلطان العثماني، ناهيك عن قرض (بدون فوائد ) للدولة العثمانية التي كانت تعاني من أزمات مالية في تلك الفترة، إضافة إلى إنشاء جامعة عثمانية بفلسطين، هذا كله مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين والتي سبق للسلطان منعها، إضافة إلى مستعمرة صغيرة بشمال القدس لليهود، لكن السلطان العثماني رفض منحه قطعة أرض واحدة هناك، لأنها ليست ملكه بل هي ملك للأمة التي روتها بدمائها، وأجابه بأن يحتفظ اليهود بملايينهم، وإن مزقت الخلافة يوما فإنه يمكنهم أخذها بالمجان، خرج هرتزل من لقاء السلطان مقتنعا بأنه لن يحصل على مبتغاه في ظل تواجد السلطان عبد الحميد الثاني على عرش الإمبراطورية العثمانية.

 
هلك الصهيوني  هرتزل  عام 1904 إثر نوبة قلبية ودفن بفيينا ويقال انه تم نقل رفاته إلى فلسطين المحتلة عام 1949.

المصدر الجزيرة نت


أسعد الله أوقاتكم بطاعته
*قصة الأندلس من الفتح حتى السقوط*
الحلقة (129)

*مملكة غرناطة وسقوط الأندلس*

*سقوط غرناطة*

*كان مقتل موسى بن أبي غسان وتسليم أبو عبد الله محمد الثاني عشر غرناطة إيذانًا بانتهاء عصر الدولة الإسلامية في غرناطة*.

أعطى أبو عبد الله محمد الثاني عشر أو محمد الصغير الموافقة بالتسليم للملكين فرناندو الخامس وإيزابيلا، ولم ينسَ أن يرسل إليهما بعضًا من الهدايا الخاصة[1]، وبعد التسليم بأيام يدخل الملكان في خيلاء قصر الحمراء الكبير ومعهما الرهبان، وفي أول عمل رسمي يقومون بتعليق صليب فضي كبير فوق برج القصر الأعلى، ويُعلن من فوق هذا البرج أن غرناطة أصبحت تابعة للملكين الكاثوليكيين[2]، وأن حكم المسلمين قد انتهى من بلاد الأندلس.[3]

*خروج آخر ملوك المسلمين من الأندلس*

وفي نكسة كبيرة وفي ظلِّ الذل والصغار يخرج أبو عبد الله محمد بن الأحمر الصغير آخر ملوك المسلمين في غرناطة من القصر الملكي، ويسير بعيدًا في اتجاه بلدة أندرش[4]، حتى وصل إلى ربوة عالية تُطل على قصر الحمراء يتطلع منها إليه، وإلى ذاك المجد الذي قد ولَّى، وبحزن وأسى قد تبدَّى عليه لم يستطع فيه الصغير أن يتمالك نفسه، انطلق يبكي حتى بللت دموعه لحيته، حتى قالت له أمه «عائشة الحرة»: أجل؛ فلتبك كالنساء مُلْكًا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال[5].

وإلى هذه اللحظة ما زال هذا التل -الذي وقف عليه أبو عبد الله محمد الصغير- موجودًا في إسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه، يتأمَّلون موضع هذا المَلِك الذي أضاع مُلكًا أسسه الأجداد، ويُعرف (هذا التل) بـ زفرة العربي الأخيرة، وهو بكاء أبي عبد الله محمد الصغير حين ترك ملكه[6].

وقد تم ذلك في الثاني من شهر ربيع الأول، سنة 897هـ= 2 من يناير سنة 1492م[7].

وقد هاجر بعدها أبو عبد الله محمد الصغير إلى بلاد المغرب، ويذكر المقري أنه استقر بفاس، وبنى بها قصورًا على طراز الأندلس، وأن المقري نفسه قد تجوَّل في هذه القصور، ورأى ذريته في فاس سنة (1027م) يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين، ويعدون من جملة الشحاذين[8].

فلعنة الله على هذا الذُلِّ! ولعنة الله على هذا التَرْك للجهاد! اللذَيْن يوصلان إلى هذا المثوى وتلك المنزلة.

*وما كان من أمر، فقد اندثرت حضارة ما عرفت أوربا مثلها من قبل؛ إنها حضارة الدنيا والدين، وقد انطوت صفحة عريضة خسر العالم أجمع بسببها الكثير والكثير، وقد ارتفع علم النصرانية فوق صرح الإسلام المغلوب، وأفل وإلى الآن نجم دولة الإسلام في بلاد الأندلس*.

وليت شعري، أين موسى بن نصير؟!
أين طارق بن زياد؟!
أين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر؟!
أين المنصور بن أبي عامر؟!
أين يوسف بن تاشفين؟!
أين أبو بكر بن عمر اللمتوني؟!
أين يعقوب المنصور الموحدي؟!
أين يعقوب المنصور المريني؟!

أين كل هؤلاء؟!

غابوا وانقطعت آثارهم وإمداداتهم، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله!

*أسباب سقوط غرناطة*

كانت عوامل انحدار وسقوط وضياع الأمم قد تشابهت إلى حدٍّ كبير في كل فترات الضعف في تاريخ الأندلس، وهذه العوامل نفسها قد زادت وبشدَّة في فترة غرناطة؛ ولذلك كان السقوط كاملاً وحاسمًا؛ وكان من هذه العوامل ما يلي:

*حب الدنيا والإغراق في الترف*

كان الإغراق في الترف، والركون إلى الدنيا وملذاتها وشهواتها، والخنوع والدعة والميوعة، هي أولى العوامل التي أدَّت إلى تلك النهاية المؤلمة، وقد ارتبطت كثيرًا فترات الهبوط والسقوط بكثرة الأموال والانغماس في الملذات، والميوعة الشديدة في شباب الأمة، والانحطاط الكبير في الأهداف؛ قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 11- 13].

وهكذا يا أهل غرناطة، أين ستذهبون؟ وإلى أين ستركضون؟ ارجعوا إلى قصر الحمراء، وارجعوا إلى مساكنكم وما أترفتم فيه، وسلموا هذه البلاد إلى النصارى، وتذوقوا الذُلَّ كما لم تعملوا للعزة وللكرامة!

*ترك الجهاد في سبيل الله*

وهو أمر ملازم لمن أُغرق في الترف؛ فالجهاد سنة ماضية إلى يوم القيامة، وقد شرعه الله ليعيش المسلمون في عزَّة ويموتون في عزَّة، ثم يدخلون بعد ذلك الجنة ويُخلَّدون فيها.

وإن الناظر إلى عهد الأندلس ليتساءل: أين أولئك الذين كانوا يجاهدون في حياتهم مرة أو مرتين كل عام، وبصفة مستمرة ودائمة؟! أين يوسف بن تاشفين، وأين أبو بكر بن عمر اللمتوني؟ وأين الحاجب المنصور؟ وأين عبد الرحمن الناصر وغيرهم؟
وإنها لعبرة وعظة حين ننظر إلى ملوك غرناطة، ومَنْ كان على شاكلتهم حين ذُلُّوا وأُهينو لَمَّا تركوا الجهاد في سبيل الله؛ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38- 39].

وقد يظن البعض أنه يجب على الملتزمين بالمنهج الإسلامي أن يضحوا بأرواحهم، ويظلوا يعيشون حياة الضنك والتعب والألم في الدنيا؛ وذلك حتى يصلوا إلى الآخرة، وإن حقيقة الأمر على عكس ذلك تمامًا؛ إذ لو عاش المسلمون الملتزمون بمنهج الإسلام على الجهاد لعاشوا في عزة ومجد، وفي سلطان ومُلك من الدنيا عريض، ثم لهم في الآخرة الجنة خالدين فيها بإذن الله.

*الإسراف في المعاصي*

يتبع العاملَيْن السابقين عامل الإسراف في المعاصي؛ فجيش المسلمين لا يُنصَر بالقوة ولا بالعدد والسلاح، لكنه يُنصر بالتقوى.

فإذا بعُد المسلمون عن دين ربهم، وإذا هجروا نهج رسولهم ,صلى الله عليه وسلم كُتب عليهم الهلكة والذلّة والصغار، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ»[9].

وإذا كان هذا حال محقّرات الذنوب، تلك التي يستحقرها العبد من فرط هوانها، فلا تزال تجتمع عليه حتى تهلكه، فما البال وما الخطب بكبائر الذنوب من ترك الصلاة، والزنا، والتعامل بالربا، وشرب الخمور، والسب واللعن، وأكل المال الحرام، فأي نصر يُرجى ويُتَوقّع بعد هذا؟!

*كانت هذه هي أهم عوامل السقوط في دولة الأندلس، وهناك غيرها الكثير مثل*:

- *الفرقة والتشرذم*

- *موالاة النصارى واليهود والمشركين*

وقد قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

وقال سبحانه: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 10].

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. وآيات غيرها كثير.

*توسيد الأمر لغير أهله*

وكان ذلك واضحًا جدًّا خاصة في ولاية هشام بن الحكم، وولاية الناصر بعد أبيه يعقوب المنصور الموحدي، وأيضًا ولاية جميع أبناء الأحمر في ولاية غرناطة.

*الجهل بالدين*

وقد وضح جيدًا قيمة العلم والعلماء في زمن عبد الله بن ياسين، وزمن الحَكم بن عبد الرحمن الناصر، وما حدث في عهدهما من قوَّة بعد هذا العلم، ووضح -أيضًا- أثر الجهل في نهاية عهد المرابطين، وفي عهد دولة الموحدين، حيث انتشر الجهل بين الناس، وسادت بينهم آراء ومعتقدات غريبة وعجيبة، كان من ذلك -أيضًا- ما حدث من الجهل بأمر الشورى، وهو أصل من الأصول التي يجب أن يحكم بها المسلمون، وكيف اعتدُّوا بآرائهم، وكيف قبل الناس ذلك منهم؟!

ومثل ما كان من غزو محمد بن الأحمر الأول لإشبيلية، وقد تبعه الناس في ذلك؛ ظنًا منهم أنهم على صواب، وأنهم أصحاب رسالة وفضيلة، وأيُّ جهل بالدين أكثر من هذا؟!
#قصة_الأندلس
#تاريخ_الأندلس
______
د.راغب السرجاني
[1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/257.
[2] المصدر السابق، 7/260.
[4] وهي البلدة التي كان قد قرر الإقامة فيها، أو أراد له فرناندو ذلك، انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/264.
[5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/267.
[6] المصدر السابق، 7/267.
[7] نبذة العصر، ص 125، والمقري: نفح الطيب، 4/525، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/258- 267.
[8] المقري: نفح الطيب، 4/529.
[9] أحمد 3818، وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره. والطبراني: المعجم الكبير 5/449، والبيهقي: شعب الإيمان 7017، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع 2687.
〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️
للاطلاع على الأجزاء السابقة:
*https://www.tg-me.com/اقرأ التاريخ/com.iqra_history*
〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️
#التاريخ_الإسلامي
#قصة_الأندلس
#التاريخ_الأندلسي
#الفردوس_المفقود
#تاريخ_سِيَر_تراجم_أخبار
#اقرأ_التاريخ
*قصة الأندلس من الفتح حتى السقوط*
الحلقة (130)

*مملكة غرناطة وسقوط الأندلس*

*مآسي المسلمين بعد سقوط غرناطة*

كالعادة ولطبيعة جُبلت نفوسهم عليها -بعد أن ترك أبو عبد الله محمد الثاني عشر البلاد- لم يوف النصارى بعهودهم مع المسلمين، بل تنكَّروا لكلامهم والتزامهم بالحفاظ على الحريات الدينية في غرناطة، وحماية الأماكن المقدسة للمسلمين، وما إلى ذلك مما ورد في شروط تسليم المدينة، فقد أهانوا المسلمين بشدة، وصادروا أموالهم؛ وكان ذلك مصداق قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].

وبعد تسع سنوات من سقوط غرناطة، وفي سنة (1501م) أصدر الملكان فرناندو الخامس وإيزابيلا أمرًا كان خلاصته أنه لَمَّا كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة (المسلمين)، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، فإذا كان بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم؛ خوفًا من أن يتأخر تنصيرهم، أو بأولئك الذين تنصروا لئلاَّ يفسدوا إيمانهم، ويعاقب المخالفون بالموت أو بمصادرة الأموال[1].

*ومن هذا المنطلق قام النصارى بعدة أمور؛ كان منها*:

*التنصير*

ولكي يعيش آخرون في بلاد الأندلس في ظل حكم النصارى الإسبان، تَنَصَّر من المسلمين بعضهم[2]، وهؤلاء لم يرتضِ لهم النصارى الإسبان حتى بالنصرانية، فلم يتركوهم دون إهانة، وقد سمَّوْهم بالمورسكيين؛ احتقارًا لهم، وتصغيرًا من شأنهم، فلم يكن المورسكي نصرانيًّا من الدرجة الأولى؛ لكنه كان تصغيرًا لهذا النصراني الأصيل[3].

وقد نقل إلينا الدون لورنتي مؤرِّخ ديوان التحقيق الإسباني وثيقة من أغرب الوثائق القضائية؛ تضمنت طائفة من القواعد والأصول التي رأى الديوان المقدس أن يأخذ بها العرب المتنصرين في تهمة الكفر والمروق، وإليك ما ورد في تلك الوثيقة الغريبة:

«يعتبر الموريسكي أو العربي المتنصر قد عاد إلى الإسلام: إذا امتدح دين محمد، أو قال: إن يسوع المسيح ليس إلهًا، وليس إلا رسولاً. أو أنَّ صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أمه، ويجب على كل نصراني أن يُبَلِّغَ عن ذلك، ويجب عليه -أيضًا- أن يُبَلِّغ عما إذا كان قد رأى أو سمع بأن أحدًا من الموريسكيين يُباشر بعض العادات الإسلامية؛ ومنها أن يأكل اللحم في يوم الجمعة وهو يعتقد أن ذلك مباح، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدي ثيابًا أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلاً باسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التي لم تذبح، أو ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده، أو يسميهم بأسماء عربية، أو يُعرب عن رغبته في اتباع هذه العادة، أو يقول: يجب ألا يعتقد إلا في الله وفي رسوله محمد، أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان، ويتصدق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلا عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر -السحور- أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة؛ بأن يُوَجِّه وجهه نحو الشرق، ويركع ويسجد، ويتلو سورًا من القرآن، أو أن يتزوج طبقًا لرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغاني العربية، أو يُقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب - الحناء - في أيديهن أو شعورهن، أو يتبع قواعد محمد الخمس، أو يلمس بيده على رءوس أولاده أو غيرهم؛ تنفيذًا لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم في أثواب جديدة، أو يدفنهم في أرض بكرٍ، أو يغطي قبورهم بالأغصان الخضراء، أو أن يستغيث بمحمد وقت الحاجة واصفًا إياه بالنبي ورسول الله، أو يقول: إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول: إنه لم ينصَّر إيمانًا بالدين المقدس، أو أن آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله؛ لأنهم ماتوا مسلمين... إلخ[4].

*التهجير*

طرد الموريسكيين من الأندلس لم تخل البلاد الإسلامية من ثورات شعبية ومواجهات محدودة الإمكانيات بمنطق «حرب العصابات»، وكان المجاهدون يختبئون في الجبال والأودية والمناطق البعيدة، ثم يشنُّون غاراتهم على القوات الإسبانية، وقد نجحوا كثيرًا في إنزال خسائر مؤثرة بالإسبان، وقد اشتدت هذه الحركات لا سيما بعد قرار التنصير الذي اعتمدته إسبانيا، فزاد عدد الثائرين والمنحازين للمجاهدين، وقد عزم الإسبان في البداية على القضاء على الثوار، إلا أنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعًا، فلما يئسوا من القضاء عليهم، أصدروا عفوا عامًّا عنهم، وسمحوا لهم بالهجرة إلى بلاد المغرب، دون أن يأخذوا معهم غير الثياب التي كانت عليهم، أما الباقون فقد كان ثمة أمر ملكي بمنع الهجرة، ثم صدر الأمر بعد ذلك عام (1609م) -أي بعد مائة سنة تقريبًا- بنفي الموريسكيين[5].
#قصة_الأندلس
#تاريخ_الأندلس
______
د.راغب السرجاني
[1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/324.
[2] انظر: نبذة العصر، ص130، والمقري: نفح الطيب، 4/527.
[3] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/322، 326، 345.
[4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/346.
[5] مجهول: نبذة العصر، ص132، والمقري: نفح الطيب، 4/527، 528، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/345.
〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️
للاطلاع على الأجزاء السابقة:
*https://www.tg-me.com/اقرأ التاريخ/com.iqra_history*
〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️〰️
#التاريخ_الإسلامي
#قصة_الأندلس
#التاريخ_الأندلسي
#الفردوس_المفقود
#تاريخ_سِيَر_تراجم_أخبار
#اقرأ_التاريخ
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
#يوميات_في_التاريخ_الاسلامي
#اعرف_عدوك_أيها_المسلم (11)
ابن سبأ

ما بين سنة 30 إلى 31 هـ، ظهر في اليمن عبد الله بن سبأ، وكانت أمه جارية سوداء، ومن ثَمّ لُقّب بابن السوداء، وكان يه*وديًا، وعاش في اليمن فترة طويلة، وكانت اليمن قبل الإسلام مقاطعة فارسية، فتعلّم عبد الله بن سبأ الكثير عن المجوسية، وأراد هذا اليه*ودي أن يطعن في الإسلام والمسلمين، وبدأ بالتفكير في عمل هذه الفتنة، فدخل في الإسلام ظاهرًا في بداية عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبدأ يتنقل في البلاد حتى ينشر بعض الأفكار السامّة، والطاعنة في الإسلام، فذهب إلى الحجاز، ولما لم يجد صدى كافيًا انطلق إلى العراق، فذهب إلى البصرة، وكانت موطنًا للفتن، ووقع هناك على رجل يُسمّى حكيم بن جبلة، وكان من المسلمين، ولكنه كان لصًّا يغير على أهل الذمة، وقد حدد الخليفة إقامته بألا ينتقل من البصرة، فقد كان رجلًا سيئ الخلق، وبدأ ابن سبأ يلقي في روعه بعض الأفكار الجديدة على الإسلام، والمقتبسة من اليه*ودية، والمجوسية، وخرجت عقائد الشيعة من هذه الأفكار التي جاء بها عبد الله بن سبأ، وقد انقسم الشيعة إلى فرق كثيرة، فمنهم من أخذ من عبد الله بن سبأ كل ما قاله، وهم من يُسمّون الآن بالسبئية، ومنهم من أخذ منه البعض، ومنهم من أخذ القليل منه، ولكن على العموم فالشيعة جميعًا أخذوا من هذه الأفكار.

تبعه حكيم بن جبلة، وبعض من قبيلته، وبعض من أصدقائه، وكان كل هذا الأمر يدور سرّا، فهو لا يجرؤ على الجهر به ابتداءً، ثم انتقل من البصرة إلى الكوفة، وهي موطن للفتن، والثورات أيضًا، واستجاب له من أهل الكوفة أفراد كثيرون، ولكن سرّا ومنهم على سبيل المثال الأشتر النخعي، وهذا أمر غريب، فقد كان الأشتر من المجاهدين في اليرموك، والمواقع التي جاءت بعدها، ولكن الله تعالى يثبّت من يشاء، وقد استجاب الأشتر لابن سبأ إما عن جهلٍ، وإما عن رغبةٍ في الرئاسة أو غير ذلك.

انتقل ابنُ سبأ إلى مصر، ووجد في مصر مناخًا مناسبًا لأفكاره؛ لأن معظم المجاهدين خرجوا إلى الفتوحات في ليبيا، وآخرين في السودان ومن كان موجودًا إنما هم قلة من المسلمين، فاستطاع ابن سبأ أن يجمع حوله قلة من الناس، واستقرّ في مصر، ولم يكن استقراره أمرًا مقصودًا، لكنه كان بطبيعته يستقرّ في كل بلد ينزل فيها مدة، ثم يغادرها إلى غيرها، فلما كان بمصر كان قد قرب عهد الفتنة فخرج من مصر.

كانت أفكار ابن سبأ تهدف لهدم الإسلام، وتشكيك المسلمين في دينهم ومن هذه الأفكار:
1- القول بعقيدة الرجعة: وهي من الثوابت عند الشيعة، وأصلها في المجوسية،وقال لهم ابنُ سبأ: إذا كان عيسى بن مريم سيرجع فكيف لا يرجع محمد صلى الله عليه وسلم، فمحمد صلى الله عليه وسلم سيرجع، وتمادى الشيعة في الأمر، وقالوا ليس محمدًا فحسب بل علي بن أبي طالب وغيره.

2- عقيدة الوصاية: قال ابن سبأ إن أمر النبوة منذ آدم حتى محمد صلى الله عليه وسلم بالوصاية، أي أن كل نبي يوصي للنبي الذي بعده- وهذا تخريف منه وتحريف- ثم بدأ في البحث عن رجل إذا تكلم عنه أمام الناس يخجل الناس أن يردوا كلامه، فقال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم أوصى بالأمر لعلي وقد علمت ذلك منه، ووضع حديثا في ذلك

ثم قال ابن سبأ لأتباعه: اطعنوا في الأمراء، وبدأ يراسل أهل الأمصار بسلبيات افتراها على الأمراء

ثم بدأ الطعن في الخليفة نفسه، وأعد ابن سبأ قائمة بالطعون في عثمان رضي الله عنه، وأرسلها إلى الأمصار والبلدان، ووصل الأمر إلى أمراء المسلمين، وإلى الخليفة رضي الله عنه، فأرسل مجموعة من الصحابة يفقهون الناس، ويعلمونهم، ويدفعون عنهم هذه الشبهات.

ثم ظهرت الفتنة، ولأول مرة بصورة علنية، وكان ذلك في الكوفة سنة 33 هـ، فقد جمع الأشتر النخعي حوله مجموعة من الرجال تسعة أو عشرة، وبدأ يتحدث جهارا نهارا عن مطاعن يأخذها على عثمان رضي الله عنه.

وأراد رءوس الفتنة أن يشعلوا الأمر أكثر وأكثر، حتى يجتثوا الدولة الإسلامية من جذورها، فبدءوا يكثرون الطعن على عثمان، ويكتبون هذه المطاعن المكذوبة، والمفتراة ويرسلونها إلى الأقطار موقعة بأسماء الصحابة افتراء على الصحابة، فيوقعون الرسائل باسم طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والسيدة عائشة.
وكان من الصعب نظرا لصعوبة الاتصال وتنائي الأقطار أن يتم تنبيه الناس إلى كذب هذه الرسائل، وأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكتبوا هذه المطاعن ولم يوقعوا عليها.

وتلك المطاعن التي افتراها من أشعل هذه الفتنة هي الموجودة الآن في كتب الشيعة، وعندما يطعنون ويسبون عثمان رضي الله عنه يذكرون هذه المطاعن الذي ذكرها هؤلاء المارقون عن الإسلام، ويضعونها على أنها حقائق.

قصة الإسلام

أسعد الله أوقاتكم بطاعته
#يوميات_في_التاريخ_الاسلامي
#اعرف_عدوك_أيها_المسلم (12)
الفرنسي رينالد دي شاتيون (أرناط)

كان ارناط صاحب شخصية مركبة ومعقدة، ففي نفس الوقت الذي كان فيه متعصبا دينيا يكره المسلمين لحد الهوس، كان طماعاً شرهاً للمال بأي صورة.

فقد دفعه الشره والطمع والكراهية للإغارة على سهل الفرات الأوسط سنة 1160م من أجل سرقة الماشية والخيول والمحاصيل من الفلاحين هناك، فوقع في فخ نصبه له الأمير مجد الدين أمير حلب، وهو من كبار أمراء نور الدين وحُمل رينالد مكبلاً بالحديد إلى مدينة حلب حيث ألقي في السجن، في انتظار ما يفعل به، ونظراً لأهميته، فقد ادخره السلطان نور الدين محمود لمبادلته بأسرى المسلمين لدى الصليبيين.

تتابعت الأحداث في هذه الفترة، وجرت خطوب كثيرة ووقائع هامة شغلت نور الدين عن سجينه الهام "رينالد" فمكث رينالد في السجن 16 عاماً كاملة، حتى إن نور الدين توفي -رحمه الله- ورينالد مازال في السجن، فلاقى الأهوال والشدائد، وانصرمت سنوات الشباب والقوة وهو في الأغلال والقيود، مما أشعل نيران الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام لديه من المسلمين، أضعاف أضعاف ما كان عليه من قبل.

بعد رحيل نور الدين تولى ولده الصغير الصالح إسماعيل، وكان ولداً صغيراً لا يحسن سياسة ملك أبيه، فاستولى على أمره من كانوا سبب في ضياع ملك أبيه، فتم أطلاق سراح السجين "رينالد" في صفقة خبيثة مع الكونت ريمون الثالث أمير طرابلس.

خرج رينالد من السجن وقد جاوز الخمسين، فوجد أن كل ما بناه قد ضاع وانهدم.

اضطر الملك بلدوين الرابع إلى توقيع هدنة مع صلاح الدين الأيوبي، لكن أرناط لم يقبل أن تمر قوافل المسلمين حاملة الثروات والأموال من منطقته بدون مقابل. في صيف عام 1181م خرج أرناط مع قوة كبيرة، متجهاً إلى تيماء، على الطريق التجاري بين دمشق والمدينة مكة، حيث سطى على قافلة عربية واستولى على كل ما تحمله من ثروة وأسر من فيها، منتهكاً الهدنة.

وجود شخصية صليبية خطيرة مثل (أرناط) بكل ما تحمله من عداء وكراهية للإسلام والمسلمين على إمارة حصن الكرك الواقع في شرق الأردن كان نذيرًا بوقوع أحداث خطيرة في المنطقة بأسرها، حيث خطط لتحقيق سيادة الفرنج على البحر الأحمر تمهيدًا لطعن الإسلام في قلبه بغزو بلاد الحرمين، والهجوم على المدينة النبوية، ونبش القبر الشريف.

وفي سنة 578هـ قرر الصليبي المجنون إدخال مشروعه الخطير حيز التنفيذ، فهجم على الموانئ المصرية الموجودة على ساحل البحر الأحمر، وهجم على ميناء (عيذاب) في قبالة جدة، ونهبوا السفن التجارية وقتلوا ركابها، ثم أسروا قافلة حجاج كانت متجهة إلى بلد الله الحرام فنهبوا أموالهم وقتلوهم جميعًا وكان الكلب الصليبي (أرناط) يذبح الحجيج بسيفه وهو يقول بأعلى صوته، وكان يحسن العربية –تعلمها في الأسر– كان يصيح: أين محمدكم؟ أين محمدكم؟ لو جاءني هنا لقتلته بسيفي!.

تم تكليف الامير حسام الدين لؤلؤ بالتوجه بمنتهى السرعة إلى الحجاز لإدراك الصليبيين قبل الوصول إلى المدينة.حيث أدركهم حسام الدين لؤلؤ وهم على مسيرة يوم واحد من المدينة، فقتل منهم الكثير واستسلم البقية . أما الكلب الصليبي المغرور (أرناط) والذي قاد تلك الهجمة الخبيثة فإنه لم يعبر البحر الأحمر مع من عبر ولما أحس بتحركات الأسطول المصري عاد مسرعًا إلى حصن الكرك، وإنما هو صنعه هذا قد أخر هلاكه بضع سنين، حتى إن السلطان صلاح الدين الأيوبي قد أقسم بأغلظ الأيمان ليقتله بيديه نظير جرائمه واعتداءاته على الإسلام ورسوله والمسلمين، وهو ما سيحدث بالفعل سنة 583هـ في معركة حطين عندما سيقع أسيرًا بيد صلاح الدين ويذبحه بيده وفاءًا بنذره.

، وبعد انتهاء معركة حطين والنصر الكبير الذي حققه المسلمون أوتي بملوك النصارى في قيودهم يتهادون بذلة مطأطئي الرءوس، وكان من بين المأسورين أرناط فقد ساقه الله إلى صلاح الدين في هذه المعركة.

استدعا صلاح الدين أرناط فلما أوقِفَ بين يديه قام إليه بالسيف، ودعاه للإسلام فامتنع، ثم قال له: أنت الذي غدرت وخنت وفعلت وفعلت، فكان يقول: هذه عادة الملوك، ثم قال له صلاح الدين -رحمه الله- القولة الذهبية المشهورة: نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت قلت للمسلمين: هاتوا محمداً يخلصكم، أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم فأخلص المسلمين من شرك، ثم ضربه بسيفه على عاتقه وتتابع من حضر من المسلمين على أرناط ، فقتل هذا الطاغية ذليلاً بين المسلمين، وكانت تلك فرحة عظيمة للمسلمين.


موقع ملتقى الخطباء

أسعد الله أوقاتكم بطاعته
2024/06/29 00:19:28
Back to Top
HTML Embed Code: