Telegram Group Search
393


جلسة الصفا

16 ذو القعدة 1445
24 أيار 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:

*كسب المال الحرام*
*خطره وصوره*

مرَّ معنا في الدرس الماضي أن مما لا يغفره الله تعالى بالتوبة وبالحج والعمرة ما كان متعلقاً بحقوق العباد، وأنه لا بدَّ من ردِّ الحقوق إلى أصحابها لكي تقبل التوبة ، وليكون الحج ماحياً للذنوب كلها.

وذلك لأن أكل الحقوق هو أكل لأموال الناس بالباطل ، وهو من الكسب الحرام، وأكلٌ للمال الحرام

ولا شك أن الكسب الحرام والمال الحرام خطرٌ وشررٌ وضررٌ وشؤمٌ على صاحبه في الدنيا والآخرة، وقد لا يعي مكتسب المال الحرام ذلك أو يعميه المال الحرام الوفير عن رؤية عواقبه الوخيمة.

وقد بيَّنت الآيات القرآنية أن آكل المال الحرام إنما يستجرُّ لبطنه نار جهنم، فذكر الله تعالى إحدى صور المال الحرام وهي أكل أموال اليتامى، فقال تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَأكلونَ أموال الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّما يَأكلونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)
وهذه النار ليست لآكل أموال اليتامى فحسب، بل لكل من يأخذ مالاً بغير حق، وهذا قاله النبي ﷺ في المتخاصمين يكون أحدهما ألحن بحجته من الآخر، فيقضي القاضي له، وهو في الواقع والحقيقة مبطل غير محق لا يستحق ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: فمن قضيت له من حقِّ أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها.

وروى الإمام أحمد والترمذي من حديث سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال لكعب بن عُجرة رضي الله تعالى عنه:
يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به .
أي : أي جسم تغذى بالحرام ونشأ وترعرع منه، كان مصيره إلى النار، فالنار أولى بكل حرام أن يحترق فيها،
وفي رواية من حديث حذيفة بن اليمان:
لا يدخل الجنة لحم نبت من سُحْتٍ، النار أولى به.
ولذلك جاء الأمر الإلهي يحثنا الله تعالى فيه على تحري الكسب الطيب الحلال، وتحري المال الحلال، فقال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)
وقال تعالى:
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)

قال المفسرون: قوله: حلالاً، أي ليس مكتسباً بطريق محرم كالربا والغش والسرقة والرشوة ونحو ذلك
وقوله: طيباً، أي ليس بخبيث في ذاته كالميتة والخمر والدخان والأركيلة وغيرها من أنواع الخبائث.

فإن الرزق الحلال الطيب لا بد أن يكون:
أولا: طيباً في ذاته، أي ليس محرماً.
ثانيا: طيباً في كسبه، أي بطريق الحلال.

وقد قال النبي ﷺ:
وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) ، وقال:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)

إلا أن عدداً من الناس في هذا الزمان أصبح لا يبالي بكسب المال الحرام، ولا يبالي بخطورته وسوء عواقبه في الدنيا والآخرة، لا سيما وقد فتحت أبواب عديدة للكسب الحرام وأصبحت له صور شتى، وقد حذر النبي ﷺ من الوقوع في ذلك :
فروى الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال:
ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال ، أمن الحلال أم من الحرام
وفي رواية عند رزين بن معاوية زيادة: فاذ ذاك لا تُستجاب لهم دعوة.

وبالإضافة إلى أن آكل المال الحرام يستجر لنفسه نار جهنم، بيَّن الله تعالى أن الكسب الحرام إتباع لخطوات الشيطان، فقال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)

أحد العلماء الصالحين هو يوسف بن اسباط قال عنه الإمام الذهبي:
من سادات المشايخ، له مواعظ وحكم،
قال: إن العبد إذا تعبَّد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه، فإن كان مطعمه مطعم سوء قال: دعوه يتعب ويجتهد، فقد كفاكم نفسه، فإن عبادته مع أكل الحرام لا تغني عنه شيئاً.

وذاك أن الكسب الحرام يمنع من قبول الأعمال، فهذا الذي قُتل شهيداً ،حسب ما رأى الصحابة ، سرقتُه أبطلت أجر شهادته، فقد روى الإمام أحمد و مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال:
لما كان يوم خيبر، أقبل نفر من صحابة النبي ﷺ ، فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد ،حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله ﷺ: كلا، إني رأيته في النار في عباءة غلَّها

وروى الإمام الطبراني بإسناد فيه ضعف من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: إذا خرج الرجل حاجاً بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز، فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور.
واذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور.

وروى الإمام مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي ﷺ قال:
لا يقبل الله صلاة بغير طُهور، ولا صدقة من غُلول، أي من مال حرام.

وروى الإمام الترمذي وابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك فيه، ومن جمع مالاً حراماً ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه

وقال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا يقبل الله صلاة امرىء في جوفه حرام.
وقال وهيب بن الورد رحمه الله تعالى: لو قمت مقام هذه السارية، لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أو حرام.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار.
وقال سفيان الثوري: من أنفق الحرام في الطاعة فهو كمن طهر الثوب بالبول، والثوب لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفِّره إلا الحلال.

ولا يقف الأمر عند عدم قبول الأعمال، بل يتعداه إلى أن الكسب الحرام من أسباب اللعن والطرد من رحمة الله تعالى.
فقد روي عن النبي ﷺ أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه،

وقال عليه الصلاة والسلام: لعن الله الراشي والمرتشي.

وقال عليه الصلاة والسلام: لعن الله السارق يسرق البيضة ويسرق الحبل.

وقال عليه الصلاة والسلام: لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها، وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه، وشاربها وساقيها.

هذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة تحذير لتجار يأكلون الحرام مع أنهم يأتون المساجد، أو يتبرعون لأعمال خير، فيوهمون أنفسهم أنهم على صواب وأنهم لا يأتون سوءا وأن هذا يغطي هذا، ويبررون أن ما يكسبونه من المال الحرام إنما هو عمل تجاري محض، تقتضيه التجارة، ولا علاقة للعبادة والصلاة به ،

وهذه بعض صور المال الحرام:

فالذين يبيعون الثياب الفاضحة التي لا تستر جسد المرأة وتُبدي أجزاء من بدنها، ويبيعون البناطيل الممزقة، إنما يأكلون المال الحرام، ويطعمونه أهليهم وأولادهم، ولا يقولنَّ أحد: إن هذه الثياب إنما هي للمرأة في بيتها، فهذه حجة واهية الواقع يكشف زيفها وكذبها.

والذين يقرضون غيرهم بالربا، أو يقترضون من البنوك بالربا، إنما يأكلون المال الحرام ويطعمونه أهليهم وأولادهم، وهم يفتون لأنفسهم أو يعتمدون على فتاوى شاذة من بعض من يتصدر للفتوى من الشيوخ تحت تبريرات ومصطلحات غير صحيحة ، هؤلاء يحلون ما حرَّمه الله تعالى، مع أن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، كما ذكر النبي ﷺ
ولو رجع المرابون إلى قلوبهم لأنكرت قلوبهم أعمالهم، ولأحسُّوا بالقلق والريبة، لأن القلب معيار، كما قال عليه الصلاة والسلام: والإثم ما حاك في نفسك، أي اضطرب القلب به ، وأما إذا لم تضطرب القلوب للحرام، فمعنى ذلك أن القلب قد مات، والإحساس بالحرام قد مات، وهذا من أخطر أحوال الإنسان.

والذي يغش في بيعه ، ويبيع بضاعة فاسدة، وخاصة تلك التي لا يدركها الزبون، كحال من يبيع لحماً فاسداً أو لحم حيوان غير الغنم والضأن والابل والبقر، كما قد عثر على من كان يبيع لحم حمير، فهو يفرمه ويضع عليه البهارات التي تضيع حقيقته، إلى غير ما هنالك.

والحرفي الذي يحتال في صنعته ولا يصدق ولا ينصح في إصلاح آلة أو جهاز أو سيارة أو يدعي وجود عطل في جهاز السيارة مثلاً، من أجل تغييره وأخذ ثمنه، ويكون في الواقع يمكن إصلاحه ولا يحتاج إلى تغيير إنما يأكل المال الحرام،

وكل صنعة وحرفة لها أسرارها التي لا يعرفها إلا أصحاب هذه الحرفة والصنعة، وتغيب معرفتها عن الناس.
فمن يستغل جهل الناس وينال منهم مالاً بغير حق إنما يأكل المال الحرام ويطعمه أهله وأولاده.

والذي يروِّج لبضاعته بإعلانات ودعايات غير مشروعة، كأن يروج باستخدام صور نساء متبرجات، أو من تسمي نفسها: محجبة، إنما يأكل المال الحرام، وهذا أصلاً يُنافي التكريم الذي كرم الله تعالى به المرأة وحماها وحفظها ونأى بها أن تكون سلعة أو أداة ووسيلة لترويج البضائع والسلع، صفحات كثيرة وإعلانات عديدة تستخدم الفتيات في التسويق للأزياء بشتى أنواعها وغيرها من البضائع.

ومن الكسب الحرام عرض سلع تخدش الحياء، مثل عرض صور الملابس الداخلية(اللانجري) وعمليات التجميل غير المنضبطة بضوابط الشريعة.

ومن الكسب الحرام إضفاء أوصاف غير حقيقية على السلعة، أو أوصاف مبالغ فيها، أو يُقال عنها أصلية أو من البلد الفلاني، وهي غير ذلك.

وثمة صرعة من صرعات هذا الزمان، وهي التسويق من خلال المشاهير الذين لديهم عدد كبير من المتابعين(وهو الذي يسمى اليوتيوبر)، يستأجره صاحب السلعة ليروج لبضاعته ويضفي عليها صفات الجودة والروعة، وتكون البضاعة رديئة وسيئة، أو يكون ما يقدمه هذا اليوتيوبر محتوىً تافهاً أو غير لائق.
وهناك صورة أخرى اليوم من النجش المحرَّم، وهي أن يدفع صاحب السلعة لبعض الناس مالاً مقابل أن يدخلوا على اعلاناته ويعلقوا عليها ويكتبوا كذباً وزورا أنهم قد جربوا هذا المنتج ووجدوه رائعاً وفعالاً ويضاهي المنتجات العالمية، وذلك ليدفعوا الناس إلى شرائه وهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك.

وثمة صور أخرى من الكسب الحرام عسى أن نذكرها في وقت آخر إن شاء الله تعالى

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وأغننا بفضلك عمن سواك يا رب العالمين.


وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
♥️جلسة الصفا ♥️


19 ربيع الآخر 1437

29 كانون الثاني 2016

لفضيلة الشيخ♦️
🔸محمد نعيم عرقسوسي🔸


💥 بعنوان

*من أسباب الكبر الثروة والمال(2)(8)*

ذكرنا في الدرس الماضي أن للكبر بسبب الغنى آفات وطامات عديدة يقع فيها الإنسان المتكبر، من هذه الطامات أن الكبر يُعمي بصيرته عن معرفة الحقيقة الكونية، وكيف أن الله تعالى يقسم الأرزاق في هذه الدنيا ابتلاءً واختباراً وحكمة الله في ذلك، وذكرنا هذا مفصلاً في قصة قارون في الدرس السابق.
ونتابع اليوم بأن من الطامات التي يقع بها المتكبر بماله وثروته أنه كما عميت بصيرته عن معرفة الحقيقة الكونية، فإنه كذلك يصمُّ أذنيه عن سماع النصائح والمواعظ، بل قد يزدري الناصحين ويزدري مقولاتهم ونصائحهم ولا يعبأ بهم ولا يقيم لهم بالاً ولا يقيم لهم وزناً، فالمتكبرون من أصحاب الثروات يستخفُّون بمن يعظ الناس ويرشدهم ويدعوهم إلى الحق وينبههم إلى أخطائهم، بل قد يستهزئون بهم جهرة، وهم في ذلك يعتقدون أنه لا حاجة بهم إلى نصح أو إرشاد، إما لأنهم يعرفون كل شيء، أو لأنهم بما أنهم أصحاب أموال طائلة، فلهم كرامة عند الله تعالى في المآل كما أكرمهم الله في الدنيا بالمال، لذلك نجد بعض أصحاب الثروات الذين يُصيبهم الكبر يهزؤون بمن يدعو إلى الله تعالى وبمن يعظ وبمن ينصح، ولقد قصَّ الله تعالى لنا طرفاً من كبر هؤلاء المترفين في آيات عديدة وكيف أنهم يردون الحق ويهزئون بالنصيحة، قال تعالى:
*وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)* .
فهم يحكمون على أنفسهم ما يشاؤون، فبيَّن الله لهم أولاً الحقيقة الكونية التي يريد الله تعالى ان يرسخها في عقول الناس جميعاً وأذهانهم فقال تعالى:
*قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ*
فالذي صار معه المال ليس بمهارته، وإنما بقسمة من الله تعالى *وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ*، فهم يجهلون تلك الحقيقة، ثمَّ رد الله عليهم فقال:
*وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ*
ثم ذكر لنا الله تعالى رجلاً اعتد بما لديه من مالٍ عظيم وجاهٍ عريض، هذا الرجل هزأ بما سمعه من رسول الله ﷺ من آيات الله من القرآن، ووصف هذا القرآن بأنه خرافات وأساطير الأولين، هذا الرجل هو الوليد بن المغيرة، أو يُقال بأنه: أخنس بن شريق، والذي نزلت فيه هذه الآيات، فقال الله سبحانه وتعالى في حقه:
*أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(15) * ، وفي قراءة: *أأنْ كَانَ ذَا مالٍ*
قال المفسرون: تقدير ذلك ، ألئن كان ذا مال وبنين يقول إذا تليت عليه الآيات: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ؟؟؟!!،
إذن من لديه من أموال لا يعبأ بما يساق إليه من موعظة ونصيحة ومن كلام الله سبحانه و تعالى، فالله عز وجل بيَّن مباشرة أن هذا الرجل الذي يشمخ بأنفه كبراً وعتوا، سينال جزاءه في محل كبره وشموخه، فقال تعالى بعد هذه الآية مباشرة: *سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ* يعني: على أنفه الذي يشمخ به، ليلحقه عارٌ كمن وُسِمَ على أنفه عارٌ لا يفارقه، إذن من الطامات التي يقع فيها المتكبر بماله وثروته استخفافه بالنصح والإرشاد وازدراؤه بمن ينصح ويعظ، وخاصة إذا كان النصح يتعلق بطريقة جمع المال، والتحذير من أخذه بالطرق الحرام، كالغش والاحتيال والربا، فحين ينصح الناصح يقول له: أنت لا علم لك بكيفية جمع المال وهذا شأن ليس من اختصاصك، فيكون الازدراء والاستخفاف إذا حذِر من أخذ المال بالطرق الحرام، وهذا جرى مع قوم سيدنا شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقوم شعيب كانوا أصحاب ثروات وأصحاب أموال، ولكن كانوا يجمعونها بالحرام، بنقص المكيال والميزان وببخس الناس أشياءهم، كما قال له سيدنا شعيب في القرآن الكريم:
*وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ* ، * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* ، فانتفخوا وتورموا كبراً وقالوا له:
*قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ* .
كلمة *الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ* هي في الأصل مديح، ولكنها هنا استهزاء وسخرية، مثل قولك لشخص لم يعجبك كلامه، بالفهيم والعاقل، وقصدك عكس ذلك والهزء به، وهم كذلك بكبرهم هزؤوا بنبيهم، ثم استخفوا بكل ما كان ينصحهم به، وقالوا له بكل كبر وعنجهية:
*يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ*

أرأيتم إلى هذه الجمل المتلاحقة التي كل جملة منها فيها استخفاف تام بسيدنا شعيب عليه السلام، فذكر الله تعالى جزاءهم فقال:
*فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۚ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ *(93)

إن طامة الهزء بالنصح والناصحين وعدم الأخذ بها خطيرة، لأن الذي يصم أذنيه عن النصيحة يبقى في شذوذه وغيه وانحرافه، وينسى ويغفل عما يوصله انحرافه إلى مصيرٍ لا تحمد عقباه.

ومن الطامات كذلك التي يقع فيها المتكبر بماله وثروته، أنه يزهو بشخصه، يزهو بسياراته الفخمة، يزهو بشركاته الضخمة، على من لديه دخل بسيط أو دكان عادي، ولا يجد لهؤلاء وزناً أصلاً على اعتبار بأن المعيار عنده المال والغنى والثروة، فوزن الرجل عنده بما يملك من ثروة، وهذا مبدأ الماديين، قيمة الإنسان عندهم بما يملك من رصيد وبما يملك من عقارات وأموال، فإن كان لا يملك شيئاً من ذلك، فلا شيء عنده يستحق الاحترام والتبجيل والتقدير، وينسون قول الله تعالى:
*إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ* ولم يقل: أغناكم.
وينسى هذا المتعجرف أنه هو والفقير أصلهما واحد من الطين ومن التراب، وينسى أن بدايتهما واحدة من ماء مهين وكلاهما خرج من مخرج البول، وكلاهما يحمل في أحشائه ما يتواري به عن الناس ويُخفيه عند خروجه، وكلاهما عرضة للإصابة بالأمراض والآفات، وكلاهما سيصير إلى التراب وإلى القبور، وفي القبور سيتم التمييز بينهما وفق الأعمال، إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، فلا فرق بينهم في الخلقة لا بالابتداء ولا بالانتهاء، لذلك بعض الشعراء نظم كلام جميل في هذا فقال:

*نَسِيَ الطينُ ساعَةً أَنَّهُ طينٌ*
*حَقيرٌ فَصالَ تيها وَعَربَد*
*وَكَسى الخَزُّ جِسمَهُ فَتَباهى*
*وَحَوى المالَ كيسُهُ فَتَمَرَّد*
*يا أَخي لا تَمِل بِوَجهِكَ عَنّي*
*ما أَنا فَحمَة وَلا أَنتَ فَرقَد*
*أَنتَ لَم تَصنَعِ الحَريرَ الَّذي*
*تَلبَس وَاللُؤلُؤَ الَّذي تَتَقَلَّد*
لما صور الشاعر : وَكَسى الخَزُّ جِسمَهُ فَتَباهى، مثل الشخص الذي يرتدي الثياب غالية الثمن ماركة عالمية، وشاهد شخصاً بسيطاً ذا طمرين (الطمر الثوب البالي)،كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المعروف، وقد يتكبَّر بسيارته الفخمة على من سيارته قديمة، وقد يتكبر بمنزله الجديد في حي أرقى من حيه السابق، على جيرانه القدامى في ذلك الحي، إن الله سبحانه وتعالى يُنبهنا من تلك الأمراض حتى نتخلص منها ولا نكون من المتكبرين، لأن الكبر هو الذي يجعل الإنسان في أحقر منزلة يوم القيامة، لأن أحقر الناس يوم القيامة وأذلهم عند الله تعالى هم المتكبرون كما مرَّ معنا في الحديث النبوي:
*يُحشر المتكبرون أمثال الذر يطؤهم الناس*.
فالقضية خطيرة ينبهنا عليها ربنا سبحانه وتعالى ونبينا عليه الصلاة والسلام، بأن نحذر من انسلال الكبر إلى نفوسنا.
وأحياناً قد يكون المتكبر لا يملك المال!!!، قد يكون معه دراجة ومتكبر!!!، فهؤلاء أيضا يحشرون من المتكبرين.

ومن الطامات التي يقع بها المتكبر بماله وثروته وجاهه بأنه يأنف من الجلوس مع الفقراء والمساكين، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو أعلى الخلق رتبة وأعظمهم قدراً وأرفعهم منزلة، كان يجلس مع الفقراء والمساكين، وهو الذي قال: ابغوني في ضعفائكم، بل كان يحثُّ آل بيته وأصحابه أن يجلسوا مع المساكين و يواكلوهم.
فروى الإمام الترمذي في سننه والبيهقي في السنن الكبرى وشعب الإيمان، أن النبي ﷺ قال للسيدة عائشة رضي الله تعالى عنها:
*يا عائشة، أحبي المساكين وقربيهم فإن الله تعالى يقربك يوم القيامة*.
وروى الإمام أحمد وغيره عن سيدنا أبو ذر رضي الله تعالى عنه قال:
*أوصاني رسول الله ﷺ* ، وفي رواية: *أوصاني خليلي أن أحب المساكين وأن أدنو منهم*، قال له: *أحب المساكين وجالسهم*.

وروى الإمام الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، يتحدث عن سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول:
*كان جعفر بن أبي طالب يُحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه، وكان النبي ﷺ يكنيه: أبا المساكين* .
وكانت إحدى زوجات النبي ﷺ تكنى بأم المساكين، هي السيدة زينب بنت خزيمة رضي الله تعالى عنها وتوفيت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام.
وروى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
*كان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيُطعمنا ما كان في بيته*، أرأيتم تواضع هذا الرجل العظيم ابن عم النبي ﷺ ، *ثم أخرج لهم عكَّة فيها العسل فشقوها ولعقوها*، يعني كان يعطيهم كل ما عنده.

وقال ضرار بن مرة في وصف سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، في أيام خلافته كان يُعظم أهل الدين ويُحبُّ المساكين، ومرَّ ابنه الحسن على مساكين يأكلون فدعوه فأجابهم وأكل معهم، ومرة دعاهم على منزله فأطعمهم وأكرمهم.

والآثار في هذه القضية كثيرة جداً لا مجال لذكرها الآن للصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من أتباع التابعين، يكفي هذه الكلمة التي قالها الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى:
*من أراد عز الآخرة فليكن مجلسه مع المساكين*
لأنك حين تجلس معهم تجبر خاطرهم، وهم فعلوا هذا أصلاً جبراً لخواطر الناس ومراعاةً لمشاعرهم، و يجب أن نعلم أن أعظم القربات عند الله جبر الخواطر، كما مرَّ معنا في الحديث النبوي الشريف:
*أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على قلب مسلم*، يعني جبر خاطره.

وقال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه:
*مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ اَلْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ طَلَباً لِمَا عِنْدَ اَللَّهِ وَ أَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ اَلْفُقَرَاءِ عَلَى اَلْأَغْنِيَاءِ اِتِّكَالاً عَلَى اَللَّهِ*
والمراد ب* تِيهُ اَلْفُقَرَاءِ* ، ألا يحقروا أنفسهم ولا يحنوا رؤوسهم من أجل ثروة الآخرين، بل عليهم أن يحفظوا أنفسهم وكرامتهم من أن يمتهنها أحد، والنبي عليه الصلاة والسلام عرَّف الغنى الحقيقي والفقر الحقيقي فقد روى ابن حبان عن سيدنا أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال:
قال لي رسول الله ﷺ:
*يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟، قلت: نعم، فقال: أنرى قلة المال هو الفقر؟، قلت: نعم، قال: إنما الغني غنى القلب، والفقر فقر القلب*.

إذن هذه طامة أن يأنف الإنسان من الجلوس مع الفقراء والمساكين، يلحق بهذه الطامة أن المتكبرين لا يدعون إلى موائدهم إلا من هم من طبقتهم ومرتبتهم من الغنى والمال، ولا يدعون الفقراء ولو كانوا من أقاربهم ومن أرحامهم لئلا يخجلوا من وجودهم، لذلك قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه:
*شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء* وفي رواية: ويدفع عنها الفقراء، وهذا أخذه من حديث النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم قال:
*شر الطعام طعام الوليمة، يُمنعها من يأتيها ويدعى لها من يأباها*.

أحد المحدثين اسمه سفيان بن عيينة، عندما سمع هذا الحديث خاف، قال: وكان أبي غنياً فأفزعني هذا الحديث حين سمعت به، فذهبت إلى شيخي الإمام الزهري أمير المؤمنين في الحديث، فسألته عن هذا الحديث فضحك وقال: ليس هو شر الطعام ولكن حدثني عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول: *شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الأغنياء ويترك المساكين*

هذه بعض الطامات التي يقع فيها المتكبر بسبب المال والثروة، وهناك طامات أخرى للمتكبر نتحدث عنها في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.

*اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليُها ومولاها يا رب العالمين*

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
394

جلسة الصفا

23 ذو القعدة 1445
31 أيار 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*فضل الاقتصاد في المعيشة وحسن التدبير*

مر معنا في ما سبق أن الله تعالى حرم الإسراف والتبذير، وذلك في قوله تعالى:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)
وفي قوله تعالى:
"(وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانوا إِخْوَانَ الشياطين ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا")

ونذكر اليوم أن الحالة التي دعانا إليها الله تعالى، وحثنا على الالتزام بها هي حالة الاقتصاد وحسن التدبير، فقال تعالى يمدح صفة من صفات عباده عباد الرحمن:
(وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَاماً)

قال الطاهر ابن عاشور:
كان أهل الجاهلية يسرفون في النفقة في اللذات، وأقوالهم في ذلك كثيرة في أشعارهم، ويفتخرون بإتلاف المال ليتحدث العظماء عنهم بذلك، قال الشاعر:
مفيد ومتلاف إذا ما أتيته
...تهلل واهتز اهتزاز المهند.

وفي الوقت ذاته كان أهل الجاهلية يقترون على المساكين والضعفاء، لأنهم لا يسمعون ثناء العظماء في ذلك.

فمدح الله تعالى الذين يتجنبون الإسراف ويحذرون الإقتار، بل يكون إنفاقهم وسطا بين هاتين الرذيلتين، فقال تعالى: (وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَاماً)

والقوام: العدل والقصد بين الطرفين،

والمعنى أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله تعالى، فلا يبددون المال ولا يستنفدونه، ولا يتلفونه في المظاهر الفارغة وحب الظهور الذي يقصم الظهور، وكذلك لا يقترون، فلا يمسكون المال فيحرمون بذلك من يستأهله.

وهذا التوصيف لعباد الرحمن ومدحهم بذلك جاء توجيهاً وإرشاداً في سورة الإسراء، فنهى الله تعالى عن كلا الأمرين: عن الإسراف وعن البخل والإقتار، فقال تعالى:
(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)

أي لا تكن بخيلاً منوعاً لا تعطي أحداً شيئاً، ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملوماً محسوراً، أي إن بخلت يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن كان ذا مال فيبخل بماله...
على قومه يُسْتغن عنه ويذمم.

ومتى بسطت يدك فوق طاقتك قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهو الدابة التي عجزت عن السير، فتوقفت ضعفاً وعجزاً، فإنها تسمى: الحسير.

فالتوسط والاعتدال في الإنفاق وحسن التدبير في المعيشة فيه الخير والسلامة والسعادة والاستقرار في الحياة، وفيه حفظ للنعمة، وشكر لله تعالى عليها، لأن المرء استعملها وفق توجيه الله تعالى.

ولذا جاءت توجيهات النبي ﷺ مؤكدة لهذا المعنى، ومبينة ثمراته ونتائجه الحميدة، وأن حسن التدبير والاقتصاد في المعيشة يذهب الفقر ويجلب الرزق وتحصل منه البركة :

فروى الإمام أحمد وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم من حديث ابن عباس وحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما، قالا: قال رسول الله ﷺ: ما عال من اقتصد، أي ما افتقر من أنفق قصداً ولم يجاوزه إلى الإسراف.

وهذا كان هدي النبي ﷺ في جميع شؤونه، وهديه أكمل الهدي، وسنته ﷺ أعظم الأعمال و الأحوال :

فقد روى الإمام البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، أنَّ قَدَحَ النبيِّ ﷺ انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ رسول الله ﷺ مَكانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِن فِضَّةٍ، أي إنه ﷺ وصل الكسر بهذه السلسلة، ولم يلقه ويستغن عنه.
ففي هذا الحديث حسن تدبير النبي ﷺ وحفظه للمال، حيث أصلح هذا القدح حين كان إصلاحه ممكناً، ولم يتخلص منه ويشتري غيره.

و روى أبو داود والنسائي وغيرهما عن السيدة ميمونة رضي الله تعالى عنها أن النبي ﷺ مرَّ بشاة ميتة، فقال النبي ﷺ: هلا انتفعتم بجلدها؟؟، قالوا: إنها ميتة، فقال لهم ﷺ: إنما حرام أكلها، أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها؟؟
وفي رواية: قال عليه الصلاة والسلام: إن دباغ الأديم طهوره.

و روى أبو داود من حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ﷺ قال:
*إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد في المعيشة جزء من خمس وعشرين جزءاً من النبوة.

إن الاقتصاد في الإنفاق والحذر من إنفاق المال في كماليات لا فائدة منها، وخاصة من الأغنياء والأثرياء، له أثر عظيم في تجاوز الأزمات الاقتصادية والظروف القاسية من غلاء المعيشة أو شح الموارد أو قلة ذات اليد، والشدائد التي تحل بالبلاد .
وهذه السياسة هي التي اتبعها سيدنا يوسف عليه السلام حين قصَّ عليه الملك رؤياه: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يا أَيُّهَا المَلَأُ أَفتوني في رُؤيايَ إِن كُنتُم لِلرُّؤيا تَعبُرونَ)
واحتار الملأ في هذه الرؤيا العجيبة وما استطاعوا تفكيك هذه الرموز، فقالوا: (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ.)
حينئذ أوَّل سيدنا يوسف هذه الرؤيا، ولم يكتف بتأويلها، بل وضع لهم خطة لتجاوز سنوات القحط التي ستمر بالبلاد، فقال لهم: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ)
يعني أمرهم بالاقتصاد بالإنفاق، وعدم استهلاك القمح كله، وأن يأخذوا منه بقدر الحاجة، قال:
(ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ)
وهذا فيه حسن إدارة الميزانية.

وهكذا بالاقتصاد وترشيد الإنفاق وحسن التدبير اجتاز سيدنا يوسف عليه السلام الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد.

وكذلك فعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عام الرمادة وهو عام القحط، فقد مال إلى الاقتصاد في الأكل فحرم على نفسه السمن وصار يأتدم بالزيت، حتى صار بطنه يقرقر، فينقره بأصبعه ويقول: قرقر ما شئت ، إنه ليس عندنا غيره حتى يحيا الناس.

إن الاقتصاد وترشيد الإنفاق لا يعني الحرمان من النعم وطيبات الدنيا، وإنما يعني عدم البطر وترك الاستكثار المتلف للمال، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة

حتى في العبادة وجهنا النبي ﷺ بفعله وقوله الى الاقتصاد والاعتدال وترك الإسراف، فورد أن النبي ﷺ كان يتوضأ بمقدار المد، وكان يغتسل بما يملأ الصاع، وهو أربعة أمداد.

وأخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي ﷺ مرَّ بسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وهو يتوضأ، فقال له ما هذا السرف، فقال سعد: أفي الوضوء إسراف؟؟!!، قال: نعم، وإن كنت على نهرٍ جارٍ.

وقد بيَّن لنا النبي ﷺ الطريقة الصحيحة في التعامل مع طيبات الدنيا وملذاتها، ففي طريقة الأكل قال ﷺ:
*ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً، وفي رواية: فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه.

وروي عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال:
عليكم بالقصد في المطاعم، فإنه أبعد من السرف وأصح للبدن، وأعون على العبادة.

وقال أيضاً: لو أن الناس اقتصدوا في الطعام لاستقامت أبدانهم.

فأين هذا مما يفعله بعض الناس من التفنن في المآكل وتعديد أنواعها حتى يصل المرء إلى حد التخمة التي توقعه في الأمراض المعروفة بسبب الإسراف في الطعام والشراب؟؟.
قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: كفى بالمرء سرفاً أن يأكل كل ما اشتهى.

وفي موضوع أثاث البيوت والاستكثار مما لا فائدة منه، قال عليه الصلاة والسلام:
فراشٌ للرجل، وفراشٌ لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان.

وأنت تجد بعض البيوت محشوة بأنواع مختلفة من التحف والأغراض والبدائع غالية الثمن، ولا فائدة منها إلا حسن المنظر وإظهار ذوق صاحب البيت، وأنه ذو ذوق رفيع، ولو صرف بعض أثمانها للفقراء لكان خيراً له في الدنيا والآخرة.

يجب أن لا نكون كالغربيين الذين يذهبون إلى السوق على أنه وسيلة إلى المتعة والترفيه، ويشترون ما ليس لهم به حاجة، ولكن ليحققوا متعة التسوق.

اذهب إلى السوق لتشتري ما أنت بحاجة إليه، ولتقلل من طلبيات المطاعم ولتكن عند الحاجة أو للتغيير، وعليك بطبخ البيت فإنه ألذ وأنفع ووسيلة للتوفير.
وبعد ارتفاع أسعار الوقود والمحروقات فلندع المشاوير الزائدة، ولنقتصر على ما هو ضروري وما نحن بحاجة إليه.

وإذا جاءك ضيف، فضع له من الطعام ما يكفي حاجته دون إسراف و تبذير، فهناك من الشعوب ما قد يضع للضيف طعاماً يكفي لعشرة أشخاص أو أكثر، ثم إن الضيف يأكل الجزء اليسير، والمصيبة بعد ذلك أن يؤخذ الطعام الكثير إلى حاويات القمامة!!!!، وهذه مصيبة من أشد المصائب، وفيها بطرٌ النعمة، والاستخفاف بها.
ولما رحل أبو سالم العياشي إلى المشرق العربي أثار استحسانه عادة المشارقة في الاكتفاء بتقديم مشروب القهوة لأغلب الزائرين، فهي عندهم تقوم مقام ما يتكلفه المضيف المغربي من أطعمة كثيرة.

وفي حفلات الأعراس أو الولادات كذلك يوضع الطعام الكثير جدا، فيؤكل منه اليسير، ويذهب الباقي إلى مكبات القمامة، كم ينفق في حفلات الأعراس من أموال طائلة تذهب كلها هدراً ولا ينتفع بشيء منها.

قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق أيام في يوم واحد.

وقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: الخرق في المعيشة أخوف عندي عليكم من العوز، لا يقل شيء مع الإصلاح، ولا يبقى شيء مع الفساد.
وقد أتى قومٌ عليهم ديَّة قيس بن عباية رضي الله تعالى عنه، وهو من أصحاب النبي ﷺ يسألونه أن يعينهم، فوجدوه في بستان له يتتبع ما يسقط من الثمار فيعزل الجيد عن الرديء، حتى إذا فرغ كلموه في حاجتهم، فبذل لهم ما أرادوا، فقال له بعضهم: صنيعك هذا(يعني إعانتك لنا) منافٍ لترقيع عيشك، فقال: ما رأيتم من فعلي أمكنني أن أقضي حاجتكم.

إن من الاقتصاد وحسن التدبير أن نترك شرب المشروبات الغازية التي هي غالية الثمن وفي الوقت ذاته ثبت ضررها للبدن، فضررها مزدوج على البدن وعلى الثمن، وأفضل منها وأنفع منها كأس من اللبن خفيف الثمن، نافع للبدن محقق لترشيد الإنفاق والاقتصاد فيه.

روي عن سيدنا أبي جعفر محمد الباقر رضي الله تعالى عنه قال: من علامات المؤمن ثلاث:
حسن التدبير في المعيشة، والصبر على النائبة، والتفقه في الدين.
وقال: لا خير في رجل لا يقتصد في معيشته، ما يصلح لا لدنياه ولا لآخرته.

ودخل على محمد الباقر رجل وهو في بستانه، فإذا هو هو مؤتزر وبيده المسحاة(الكريك) يحول الماء في نخله من موضع إلى موضع، فقال له الرجل: ما عندك من يكفيك هذا؟؟!، قال: إنه لا بد للمؤمن من ثلاث، فقه في دينه، وتدبير في معيشته، ومعاشرة للناس بالمعروف.

وجاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه وهو يلتقط حنطة، فاستغرب وسأله عن ذلك فقال: إن من فقهك رفقك بمعيشتك.

وقال معاوية رضي الله تعالى عنه: القصد قوام المعيشة، ويكفي عنك نصف المؤونة.

وقال بعض العلماء: ما وقع تبذير في كثير إلا هدمه، ولا دخل تدبير في قليل إلا ثمره.

وقال بعض الأدباء: من ربَّى ولده على الاقتصاد أفاده أكثر ممن خلَّف له ثروة وفيرة.
وقد جاء في الأثر: أن شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس، ولا يكون هذا إلا بالاقتصاد وترشيد الإنفاق.
وللإنصاف فإن أهل الشام قديماً كان لديهم حسن تدبير، ولحسن تدبيرهم هذا، مظهران اثنان:
المظهر الأول:
أنهم كانوا يجمعون كسر الخبز ويعملون منه ما يعرف بالفتوش والتسقية، فسبب هاتين الأكلتين، أنهم يحافظون على كسر الخبز ولا يرمونها.
و المظهر الثاني:
من خلال صنعة الرتا، فكانوا إذا تمزق ثوب أو بنطال، لا يرمونه ويستغنون عنه، بل كانوا يرسلون به إلى الرتَّا ليرتو الثوب ويرتق ما فتق فيه، بل إذا تمزق جورب كانوا يخيطونه ولا يستعجلون بالاستغناء عنه.
فعلينا أن نلتزم هذا الهدي الرباني والهدي النبوي، ونقتصد في معيشتنا ونحسن تدبير أمورنا، لتبقى لنا البركة والخير ونبعد عنا العوز والفقر.

اللهم اجعلنا ممن إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَاماً يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
395

جلسة الصفا

1 ذو الحجة 1445
7 حزيران 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*فضل عشر ذي الحجة والعمل الصالح فيه*

لا شكَّ أنَّ أشرف المقامات المقصودة بالذات هو مقام القرب من حضرة الرب سبحانه و تعالى، فالقرب من الله تعالى هو أفضل المنازل وأعلاها ، وأرفع المراتب وأسماها، وجميع المنازل والمراتب فهي دونها بكثير.

ومن حظي بالقرب من الله تعالى فهو أغنى الناس وأعز الناس، ولو لم يملك من الدنيا إلا الشيء القليل، ومن كان بعيداً عن الله تعالى فلا يفيده ملء الأرض ذهباً، لأنَّ ذلك كله سيتركه ويمضي إلى الله تعالى وحيداً لا شيء معه.

والله تعالى يحب من عبده أن يتقرب إليه حتى يقربه، ولذلك جعل له وسائل وطرقاً يتقرب بها إليه من عمل الصالحات وفعل الخيرات وأنواع العبادات

وليُقَوِّي الله تعالى فينا الهمة والعزيمة على ذلك، وعدنا بأن يثيبنا بأفضل مما نبذل، ويجازينا بأكثر مما نفعل، فقال تعالى في الحديث القدسي:
إذا تقرب العبد مني شبراً تقربت منه ذراعاً، واذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.

يعني أن إقبال الله تعالى على العبد إذا أقبل العبد عليه سبحانه ، يكون أكثر من إقبال العبد عليه
ومعنى الباع: طول ذراعي الإنسان وعضديه
، ففي هذه الجمل الثلاث بيان فضل الله تعالى ، وأنه يُعطي أكثر مما فُعل من أجله، ويُعطي العامل أكثر مما عمل.

وقد بيَّن الله تعالى أن المقربين هم السابقون إلى فعل هذه الخيرات والأعمال الصالحات، فقال تعالى:
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)

وقد شرع الله تعالى لعباده أعمالاً وعبادات إذا عملوها قرَّبهم إليه، وهي أعمال كثيرة مذكورة في الكتب المختصة بذلك.

ومما شرعه الله تعالى كذلك ليُقَرِّبَ عباده إليه، أن جعل لهم أياماً يضاعف فيها أجر الأعمال الصالحة ، ويجعلها الله تعالى فرصة لمن أراد أن يزداد قرباً منه سبحانه وتعالى في مدة يسيرة

ومن هذه الأيام أيام عشر ذي الحجة ونحن في اليوم الأول منه.

فروى الإمام البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ﷺ قال:
ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء،

يعني أنفق ماله كله في سبيل الله، ثم استشهد في سبيل الله.

وفي رواية عند الإمام أحمد والطبراني بلفظ :
ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله، العمل فيهن من أيام العشر.

وفي رواية عند الدارمي بلفظ :
ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرأ من خير يعمله في عشر ذي الأضحى.

وفي رواية عند البزار بلفظ :
أفضل أيام الدنيا أيام العشر.

هذه الأحاديث النبوية الشريفة تدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن ينهضوا للعمل الصالح في ايام عشر ذي الحجة ، وأعمالهم فيها أحب إليه من أعمالهم في غيرها من الأيام، ولذلك ضاعف لهم الأجر وضاعف لهم الحسنات والمكرمات.

قال الحافظ ابن رجب:
ليس كل أحد قادراً على الحج، فجعل الله تعالى موسم الحج مشتركاً بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج، قدر في العشر على عملٍ يعمله في بيته وبلده، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.
إذاً، كأن الله تعالى جعل هذه الأيام تعويضاً لمن لم يقدر على أداء فريضة الحج، وقال ابن رجب: الأعمال في هذه الأيام أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج :
صلاة الفجر في جماعة ، والصلوات في جماعة بشكل عام في هذه الأيام أحب إلى الله تعالى من غيرها من الأيام.
وصيام هذه الأيام أحب إلى الله تعالى من غيرها من الأيام.
وقراءة القرآن في هذه الأيام أحب إلى الله تعالى من القراءة في غيرها من الأيام.
وذكر الله في هذه الأيام أحب إلى الله تعالى من غيرها من الأيام.
والإنفاق في سبيل الله تعالى والإحسان إلى الفقراء أحب إلى الله تعالى من الإنفاق في غيرها من الأيام.
وعفوك عن المسيء إليك أحب إلى الله تعالى من غيرها من الأيام.

وهذه الأيام هي التي ورد أن الله عز وجل أقسم بها في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ)
قال الطبراني وابن كثير وغيرهما: المراد بها عشر ذي الحجة، نقل ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف.

لذلك كان الصالحون يغتنمون هذه الأيام ويفرحون أن أدركوها ويجتهدون في العبادة فيها .
فروي أن سعيد بن جبير كان يجتهد فيها اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يحثُّ الناس على اغتنام هذا العشر، ويقول لهم: لا تطفؤوا سرجكم في ليالي العشر.
وقال أبو عثمان النهدي وهو من كبار التابعين والمحدثين: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم.
وكان الحافظ ابن عساكر يعتكف في العشر الأواخر من شهر رمضان ويعتكف في عشر ذي الحجة.

وقوله عليه الصلاة و السلام: العمل الصالح في الحديث: ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام، يشمل كل عمل صالح حث عليه الله تعالى، وحث عليه رسوله ﷺ ، فكل ما كان عملاً صالحاً يصدق فيه هذا الحديث .

فمن الأعمال الصالحة التي يحبها الله تعالى:
1- *التوبة النصوح*، وهي التي يغفر الله تعالى بها الذنوب كلها قديمها وحديثها، سرَّها وعلانيتها، لأنه سبحانه وتعالى غافر الذنب وقابل التوب، وهو يحب التوابين، فيغدو المرء بالتوبة مرتاح النفس بما تخلص بتوبته من ثقل الذنوب والآثام،

وقد كان السلف الصالح من تعظيمهم لهذه الأيام لا يحدثون فيها ذنباً مهما صغر، حتى إنهم كانوا لا يحدثون فيها بالحديث الضعيف تورعاً، فقد ذكر أحد الحفاظ يدعى البرذعي في( سؤالاته) أنه قال: سألت أبا زُرعة الرازي في عشر ذي الحجة عن حديث، فأبى أن يقرأه عليَّ، وقال لي: فيه كلام أخاف أن لا يصح، فلما ألححت عليه قال: فأخِّره حتى تخرج العشر، فإني أكره أن أحدث بمثل هذا في عشر ذي الحجة

إذاً الواجب أن نتورع في هذا العشر عن الذنوب مهما صغرت.

2- *الصيام*، وهو من العمل الصالح، وروى الإمام أحمد وأبو داود عن بعض أزواج النبي ﷺ قالت: كان رسول الله ﷺ يصوم تسع ذي الحجة.
وأما ما ورد عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله ﷺ صائماً العشر قط، فقد جمع بين الحديثين الإمام أحمد، فذكر ان حديث السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها يعني لم يصمه كاملاً، وحديث بعض أزواج النبي ﷺ أنه كان يصوم أكثره.
ورجَّح الإمام أحمد أنه ﷺ كان يصوم هذه الأيام.
وكان أئمة التابعين من أمثال محمد بن سيرين ومجاهد وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس يصومون العشر كله

وكان الحسن البصري يقول: صيام يوم من العشر يعدل صيام شهرين.

وقد روى الترمذي وابن ماجه عن النبي ﷺ أن صيام يوم من أيام العشر يعدل صيام سنة وقيام ليلة منه يعدل قيام ليلة القدر، ولكن الحديث إسناده ضعيف، قيل: والصواب أنه مرسل، أي من رواية التابعي عن النبي ﷺ دون ذكر للصحابي.

وأفضل هذه الأيام و آكدها يوم عرفة، قال فيه النبي ﷺ:
صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده.

وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: لا بأس بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة.

وكان سعيد بن جبير يقول: أيقظوا خدمكم يتسحرون لصيام يوم عرفة.

3- *قيام الليل*، وقيام الليل ندبنا الله تعالى إليه في عديد من الآيات، فالأولى أن نحرص على قيام هذا العشر ولو بضع ركعات بعد العشاء نقرأ فيها صفحات من القرآن الكريم.

وقد مر معنا أن سعيد بن جبير كان يقول: لا تطفؤوا سرجكم في ليالي العشر

4- *الإكثار من ذكر الله عز وجل*، وهذا وجه إليه النبي ﷺ ، فقال عن هذه الأيام: فأكثروا فيهنَّ من التهليل والتسبيح والتحميد والتكبير

ومن أفضل الذكر تلاوة القرآن الكريم، فإن استطعت أن تختم ختمة في هذه الأيام فافعل فإنك تكون قد ربحت هذه الأيام.

5- ومن أهم الأعمال الصالحات في هذه الأيام :
*الصدقات*، والصدقات أجرها عظيم وخيرها عميم، وفوائدها عديدة لا مجال هنا لذكر فوائدها وفضائلها الجمة .
كان أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه يقول: والصدقة شيء عجيب، والصدقة شيء عجيب، والصدقة شيء عجيب، كان يقولها ثلاثاً.

6- ومن أهم الأعمال الصالحات في هذه الأيام كذلك :
*إصلاح ذات البين* وإزالة الخلافات وهذا مما يحبه الله تعالى ويحث عليه، وهو القائل: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، وهذا يعني أنه من لم يصلح بينه وبين أخيه فليس متقياً لله تعالى.
ويكفي في ذلك قول النبي ﷺ فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنه ﷺ قال:
ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟، قلنا : بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة.

والحديث المخيف هو أن الأعمال تعرض في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله تعالى في ذلك اليوم لكل امرىء لا يشرك بالله شيئا، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، يقول الله تعالى لملائكته: انظروا هذين حتى يصطلحا.

فلنحرص على اغتنام هذه الأيام بأنواع القربات والعبادات والأعمال الصالحات لنزداد قرباً من الله تعالى

وإذا ازددنا قرباً منه تعالى أحبَّنا سبحانه وتعالى، وما أعظمها من نعمة، وما أثمنه من كنز لا تقوم له الدنيا، فهو القائل في الحديث القدسي:
ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.
يعني يصبح رحمانياً في جوارحه كلها، ويغدو ربانياً فلا يفعل بجوارحه إلا ما فيه مرضاة الله تعالى، فلا ينظر إلى الحرام، ولا يصغي إلى الحرام، ولا يمشي إلى الحرام، ولا يأخذ بيده المال الحرام، ولا يؤذي بيده أحداً مما نهى الله تعالى عنه.

اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
♥️جلسة الصفا ♥️


26 ربيع الآخر 1437

5 شباط 2016

لفضيلة الشيخ♦️
🔸محمد نعيم عرقسوسي🔸


💥 بعنوان
طامات الكبر بالعلم والثقافة(1)(9)* *

لا زلنا نتحدث عن هذا الداء الخطير الذي هو أصل الأخلاق المذمومة، وأم الرذائل وفيروس الفرقة والاختلاف والبغضاء ألا هو خلق الكبر، وذكرنا ما قد يقع به الكبر من النعم التي أنعم الله بها علينا دون أن توصلنا إلى هذا الداء الخطير، وقلنا إنه مما قد يقع به الكبر المنصب والجاه، وكذلك الثروة والمال، وهذا ما تحدثنا فيه في الأسابيع الباقية.

ونتحدث اليوم أنه مما قد يقع به الكبر العلم والثقافة، فالعلم والثقافة لها زهو في النفس وتيه في الفكر وانتشاء وإحساس بالعلو والرفعة، على من يُقال عنهم "عوام الناس"، فالعلم والثقافة تعطي الإنسان زهواً بنفسه وتشعره وكأنه أعلى إنسان في المجتمع، لذلك قال الإمام الغزالي وغيره:
*ما أسرع الكبر إلى العلماء* .
وقالوا:
*آفة العلم الخيلاء*
وقال أحد الحكماء وهو يصف كبر العالم:
*فلا يلبث أن يستشعر الواحد منهم في نفسه كمال العلم، فيستعظم نفسه ويستحقر الناس ويستجهلهم سواءً كان العلم شرعياً أو مادياً*

وقد يكون هذا العالم عالماً بالشرع ولكنه لم يهذِّب نفسه، أو يكون العالم مختصاً بأي فرع من فروع المعرفة، في الطب في الهندسة في الحقوق في الاقتصاد في أي فن من الفنون، فإذا دخل به الكبر أحس بهذا الزهو والعلو والرفعة والارتفاع.
وقد تجد الكبر بين من صنفوا أنفسهم كما يُقال الفئة النخبوية، أو تجد الكبر بين ما يسمى "جيل الرواد" و"جيل الأقلام الناشئة"، مع أن الأصل أن يعطف بعضهم على بعض ويعين بعضهم بعضاً ويعلِّم بعضهم بعضاً، وقد يلتمس هؤلاء الذين يشعرون بالكبر والتيه، دليلاً من القرآن الكريم، يقول لك: أما قال الله تعالى:
‌‏*يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ*

يقول لك: أما قال الله تعالى:
*قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ*

ونقول: لا شكَّ أن الله تعالى أثنى على العلماء وذكر أن الله يرفعهم درجات، ولكن ثناء الله تعالى عليهم مشروطٌ بشروط، من جملة هذه الشروط تواضعهم وإخباتهم، لأن ذرة من الكبر تفسد على الإنسان عبادته وصلاحه وعلمه وثقافته، ذرة واحدة تفسد عليه أعماله كلها مهما كان صالحاً، قال النبي ﷺ:
*لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر*

لذلك نحن نتكلم عن هذا الداء لمحاصرته من كل الجهات حتى لا يدخل إلينا من أي منفذ من المنافذ، وبعض من تكبَّر بعلمه وقع في ضلالات والله تعالى حذَّر من هذا، فقال عز وجل في سورة الجاثية:
*أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ*

فهذا الذي يزهو ويتكبر بمعرفته وخبرته على الناس يصل إلى الضلالات، نعم في رأسه علمٌ ولكن في قلبه كبرٌ فأفسد ما في قلبه ما في رأسه من العلوم والمعارف، وكان يمكن أن ينتفع بها وينفع بها لولا هذا الداء الذي حجبه عن ذلك.

وللكبر عند العالم أو المثقف مظاهر تدل عليه، وهذه العلامات التي تكشف الكبر هي آفات وطامات يقع فيها المتكبر، من جملة ذلك ما قلناه سابقاً، إحساسه بالعلو والرفعة إذ يجعل نفسه في الطبقة العليا في المجتمع، وهذا يدل على أمر خطير وهو أنه لم يرد بعلمه وجه الله تعالى، وإنما أراد بعلمه أن يُشار إليه بالبنان، ولم ينتفع بعلمه ولن ينفع أمته ومجتمعه وبلاده، لذلك قال أهل المعرفة:
*من طلب العلم للآخرة كسره علمه وخشع قلبه واستكانت نفسه، وكان على نفسه بالمرصاد، ومن طلب العلم للفخر والرياسة ونظر إلى المسلمين شزراً فهذا من أكبر الكبر، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر*.

تعالوا معنا إلى الأسوة الحسنة إلى القدوة العظمية، تعالوا إلى سيدنا محمد ﷺ فقد حباه الله تعالى بمؤهلات العظمة وخصائص الرفعة ما لم ينله أحد غيره ولا شيئاً منه، اسمعوا ما قال الله تعالى له في القرآن:
* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ *
وقال له:
*وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا*
وقال له:
*أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ*(4)

أرأيتم إلى مؤهلات العظمة والرفعة التي كان عليها النبي ﷺ، ومع ذلك كان سيد المتواضعين ومواقفه في ذلك تدهش العقل، لا مجال لذكرها الآن، ومع كل تلك المؤهلات كان يدعو ويقول:
*اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين*

وليس المراد بالمسكنة هنا الفقر، وإنما المسكنة بمعنى التواضع والإخبات، فقال الإمام البيهقي في كتابه السنن الكبرى وفي كتابه شعب الإيمان: أنه ﷺ لم يسأل المسكنة التي يرجع معناها إلى القلة، وإنما سأل المسكنة التي معناها الإخبات والتواضع.
فإذا أوتيت علماً وأوتيت معرفة ونلت ثقافة، لا تشعر بالزهو والتيه والرفعة والعلو، بل قل:
*اللهم آتِ نفسي تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها*.

ومن مظاهر الكبر عند المثقف والعالم، وهي من الآفات والطامات، وهي أنه يحب أن يعظمه الناس ويوقروه وينادوه بالألقاب التي تليق به، فإذا خوطب أو وجه إليه كتاب مثلاً، ينبغي أن يقال: إلى فضيلة فلان، أو معالي فلان، إلى ما هنالك مما يعرفه الناس.
وإن حاز مثلاً على شهادة الدكتوراه، لا يرضى أن يدعى سوى بلقب دكتور، فإن أخلَّ بهذا أحد حنق عليه، وإن لم يُظهر امتعاضه أسرَّه في نفسه، بعضهم بعد أن نال شهادة الدكتوراه قال له صاحبه: يا أبا فلان، فقال له: رجاءً مناداتي دكتور فلان، أرأيتم كيف دخل الكبر إليه من خلال هذه الشهادة؟!!.

تعالوا بنا إلى الأسوة الحسنة، إلى قدوتنا العظيمة سيدنا محمد ﷺ، وهو في أعلى ذرا الإنسانية، والله تعالى سيعطيه يوم القيامة الوسيلة أرفع درجة في الجنة، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن رجلاً جاء إليه فقال له: يا خير البرية، فقال له النبي ﷺ: ذاك إبراهيم.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: يقوله احتراماً لإبراهيم وخلته وأبوَّته.

وقلنا سابقاً أن النبيﷺ وهو في أعلى ذرا الإنسانية، قال: *لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى*، وقال عليه الصلاة والسلام: *من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب*.
وهو الذي قال ﷺ:
*لا تطروني، كما أطرت النصارى عيسى بن مريم*، هذه هي القدوة العظيمة.

ثم أن تيه الإنسان من العلم وإعجابه به وحرصه على أن يُعظمه الناس في ذلك يدل على أنه لم ينل من العلم إلا القليل، لأن قليل العلم يوصل إلى هذا الجهل، قال الإمام الماوردي في كتابه النفيس "أدب الدنيا والدين": قلَّما تجد بالعلم معجباً وبما أدركه منه مفتخراً، إلا من كان فيه مُقلاً ومقصراً، لأنه قد يجهل قدره ويحسب أنه نال بالدخول فيه أكثره، ثم ذكر الماوردي قول للشعبي:
*العلم ثلاثة أشبار، فمن دخل بالشبر الأول تكبَّر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لا يعلم*
وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
* كُلَّما أَدَّبَني الدَّهرُ -- أَراني نَقصَ عَقلي وَ إذا ما ازدَدتُ عِلماً -- زادَني عِلماً بِجَهلي*
فالعلم بحرٌ لا ساحل له ومهما حصَّل من العلم لا يحصِّل إلا القليل، قال الإمام المارودي رحمه الله تعالى بعد ما ذكر قول الإمام الشعبي:
ومما أنذرك(أعلمك) به من حالي أنني صنفت في البيوع كتاباً جمعت فيه ما استطعت، وأجهدت فيه نفسي حتى تهذَّب واستكمل، وكدت أُعجب به وتصورت أنني أشد الناس اطلاعاً بعلمه، إذ حضر في مجلسي أعرابيان فسألاني عن بيعٍ عقداه في البادية على شروط تضمنت أربعة مسائل، لم أعرف لواحدة منهن جواباً، فأطرقت مفكراً بحالي وحالهما معتبراً، فقالا: ما عندك فيما سألنا جواب؟؟!!، قلت: لا، قالا: واهاً لك(يا حسرة عليك) وانصرفا، فعرف الإمام الماوردي بأن الإعجاب بما توصل إليه المرء من علمٍ خطأً عظيم ، لأنه كما قال تعالى:
*وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ*.

ومن مظاهر الكبر لعالم أو المثقف أو المختص، وهي من الآفات والطامات، بأنه لا يتواضع على طلاب العلم ولا يتودد إليهم أصلاً، بل يزهو عليهم بما لديه من درجات علمية و شهادات عالية رفيعة، قد يكون هذا المختص يحمل مثلاً شهادة البورد في اختصاصه، فيشمخ بأنفه على الطلاب ويزهو عليهم مما يؤدي إلى أمر خطير، وهو أنه لا يقدم للطلاب ما يستحقونه من المعرفة والفوائد العلمية، ولا يُبسِّطُ إليهم المسائل ليفهموها، بل قد يتعمد الغموض في الحديث باستعمال مصطلحات غريبة وعبارات غامضة ليُشعر الطلاب بعلوِّ كعبه في العلم، ولو رجع إلى القدوة العظمى والأسوة الحسنة إلى سيدنا محمد ﷺ لعرف كيف ينبغي أن يفعل، النبي عليه الصلاة والسلام كان سيد العلماء، بل منه نهل العلماء كل هذه العلوم والمعارف الغزيرة هو الذي قال الله تعالى له:
*وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا*
وقال الله تعالى له:
*وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*
والتعبير بالجناح تعبير رائع، لأن الجناح به يُحلِّق الطائر وهنا من باب التشبيه والاستعارة، الجناح هو سبب العلو والتحليق، فالله سبحانه وتعالى يقول له: ما هو سبب العلو والتحليق، اخفضه لمن اتبعك من المؤمنين، فعلمهم وأرشدهم وبيِّن لهم الحق، وهذا ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام على أعظم وجه وأحلى صورة، فروى الإمام مسلم في صحيحه(876) عن أبي رفاعة العدوي رضي الله تعالى عنه قال:
* انتهيت إلى النبي ﷺ وهو يخطب فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، يقول أبو رفاعة: فأقبل عليَّ رسول الله ﷺ وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأوتي بكرسيٍ حسبت قواعده حديداً فقعد عليه رسول الله ﷺ وجعل يُعلِّمني مما علمه الله تعالى، ثم أتى خطبته فأتمَّ آخرها*
ما هذا الموقف العظيم الموقف الرائع الذي يعلمنا فيه النبي ﷺأن نتواضع لطلاب العلم لنعلمهم، وأخذاً بهذا التوجيه الرباني والتوجيه النبوي، قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
*تواضعوا لمن تتعلمون منه العلم وتواضعوا لمن تعلمونه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم*، وفي رواية: *فيغلب جهلكم علمكم*.

هذا بعض مظاهر الكبر، كبر العلم والثقافة وهي من الآفات والطامات التي يقع بها المتكبر فيخسر كثيراً، وهناك آفات وطامات أخرى نذكرها في الدرس القادم بإذن الله تعالى.

*والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم*
396


جلسة الصفا

8 ذو الحجة 1445
14 حزيران 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*فضل يوم عرفة وفضل الأضحية*

يوم غد هو أفضل أيام العام ، وهو يوم عرفة، والذي ثبت له فضائل عديدة منها:

1- هو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة:
روى الإمام البخاري ومسلم عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل من اليهود، فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟، قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
فقال له سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: والله إني لأعلم اليوم نزلت فيه ، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله ﷺ بعرفات في يوم جمعة.

2- وهو يوم العتق من النار:
فروى الإمام مسلم في صحيحه أنه ﷺ قال: ما من يوم أكثر من أن يعتق بها الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة.

3- وهو يوم المغفرة:
ففي رواية في صحيح مسلم، يقول الله لملائكته: اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت لهم.
وروى الطبراني والبزار أن النبي ﷺ ذكر أن الله يُباهي بالحجيج ملائكته، يقول للملائكة: عبادي جاؤوني شعثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل أو كقطر المطر أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له.

4- وهو يوم الدعاء:
فروى الإمام الترمذي في السنن أنه ﷺ قال: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وروي أن الصالحين كانوا يجهزون دعواتهم ليوم عرفة، فقد روي عن أحد الصالحين أنه قال: والله ما دعوت دعوة يوم عرفة، فما دار عليها الحول، إلا رأيتها مثل فلق الصبح.

5- وهو يوم أقسم الله تعالى به في قوله تعالى: (وشاهد ومشهود)، فروى الإمام الترمذي من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال: اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة.

وهو يومٌ فضلُه مكاني وزماني، فليس فضله محصوراً في أرض عرفة، وإنما يشمل فضل ذلك اليوم الأرض كله، بدليل أنه يُسَن صيام هذا اليوم لغير الحاج، فقال عليه الصلاة والسلام:
"صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده"

6- وهو يوم يغتاظ منه الشيطان:
ففي موطأ مالك من مراسيل طلحة بن عبيد الله عن كريز أن النبي ﷺ قال: ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه من يوم عرفة. وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام.

ولذلك كان السلف الصالح يعظمون ذلك اليوم ، ويغلب عليهم الخوف في ذلك اليوم، فهذا مطرف بن عبد الله بن الشخير، وهو من علماء التابعين ومن عبادهم، وقف في عرفة مع بكر المزني، فقال أحدهم: اللهم لا تردَّ أهل الموقف من أجلي، وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أنِّي فيه.

ووقف الفضيل بن عياض بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى، حتى حال البكاء بينه وبين الدعاء فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: واخجلتاه منك وإن عفوت عني،

قال ذلك لأنه غلب عليه الحياء من الله تعالى.

وكان بعض السلف يأخذ بلحيته في يوم عرفة ويقول: يا رب، قد كبرت فأعتقني.

وجاء عبد الله بن المبارك إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه في عرفة وعيناه تهملان من الدموع، فقال ابن المبارك لسفيان الثوري:
من أسوأ هذا الجمع حالاً؟، فقال سفيان: الذي يظن أن الله لا يغفر له.

وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً، (يعني: سدس درهم) أكان يردهم؟، قالوا: لا، فقال لهم الفضيل: والله للمغفرة عند الله تعالى أهون من إجابة رجل لهم بدانق.

قال الحافظ ابن رجب:
من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه.
ومن عجز عن المبيت بمزدلفة، فليبت عزمه على طاعة الله تعالى وقد قرَّبه وأزلفه.
ومن لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف، فليقم لله بحق الرجاء والخوف.
ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هواه هُنا وقد بلغ المُنى.
ومن لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد، فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلينا من حبل الوريد.

ومن العبادات الفاضلة بعد يوم عرفة أي في يوم الأضحى، التقرب إلى الله تعالى بالأضاحي .
والأضحية سنة مؤكدة في حق الموسر، وهو قول جمهور الفقهاء الشافعية والحنابلة، وقال بعض الفقهاء: إنها واجبة على من ملك النصاب من الحوائج

.وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)
وقد ورد في فضلها أحاديث عدة، منها ما رواه الإمام الترمذي وابن ماجه بإسناد فيه ضعف عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق الدم، (يعني الأضحية) وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع بمكان عند الله قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً.

وثبت فى صحيحي البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما .
يعني صفاح أعناقهما لئلا يضطربا عند الذبح، أملحين : أي لونهما سواد وبياض، أقرنين: لكل واحد منهما قرنان.

وروى الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: أقام رسول الله ﷺ بالمدينة عشر سنين يُضحي كل سنة.

وروى الإمام مسلم عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي ﷺ أمر بكبش أقرن، فأخذ الكبش فأضجعه ثم قال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد . ثم ضحَّى به.

وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: صليت مع رسول الله ﷺ عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه، فقال: بسم الله الله أكبر، هذا عني وعن من لم يُضحِّ من أمتي.

والأضحية شعيرة عظيمة من شعائر الله تعالى، وتشريع عظيم من تشريعات هذه الشريعة، وفيها خير عظيم وفضل كبير، وهي تتضمن هذه الثنائية الملازمة لشرائع هذا الدين العظيم، وهي إحسان عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله.

وجاءت الإشارة إلى هذه الثنائية في قوله تعالى:
﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
والبدن جمع بدنة، وهي الجمل الضخم البدن، وألحق بها البقر والغنم بدلالة السنة النبوية.
وقوله تعالى: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) ، قال الحافظ ابن كثير: أي ثواب عظيم في الدار الآخرة.

نقل سفيان الثوري عن أحد المحدثين، أنه كان يستدين ويتقرب بذبح البدن، فقيل له: تستدين وتسوق البدن؟؟!!، فقال: إني سمعت الله تعالى يقول: (لكُمْ فِيهَا خَيْرٌ).

وقوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا) ، قال ابن جرير الطبري: هذا الأمر للإباحة، يعني حلَّ لكم أكلها بعد نحرها، وليس أمر إيجاب، وذاك لأن المشركين كانوا لا يأكلون ذبائحهم، فأراد الله تعالى إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم أكل المُهدي من لحوم هديه، ورخص للمسلمين أن يأكلون منها، فمن شاء أكل، ومن شاء لم يأكل.

وأما الأمر في قوله تعالى:
(َوأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)، قال الإمام الشافعي: هو للوجوب ، وهو صريح قول الإمام مالك.
والقانع: هو المستغني بما أعطيته وهو في بيته، قاله ابن عباس،
والمعتر: هو الذي يتعرض لك لتعطيه اللحم.

قال الحافظ ابن كثير:
وقد احتج بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تُجزَّأ ثلاثة أجزاء، فثلث لصاحبها يأكله، وثلث يهديه لأهله وأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء.

والقول الثاني: أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف.

والأضحية فرصة عظيمة ومناسبة مباركة لكي نتقاسم نعمة الله علينا مع من حرم هذه النعمة، وهذا مما يحبه الله تعالى ويرضاه ويثيب عليه الكثير.

وفضل إطعام الطعام ورد في القرآن الكريم وفي سنة النبي ﷺ :

ففي القرآن الكريم في قوله تعالى في وصف الأبرار:
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)
وقوله تعالى:
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)

وفي السنة المطهرة روى الإمام البخاري ومسلم عن سيدنا عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ: أي الإسلام خير؟، فقال له ﷺ:
تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت وعلى لم تعرف

وروى الإمام أحمد عن صهيب بن سنان رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
خياركم من أطعم الطعام

وروى الإمام الترمذي عن سيدنا عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي ﷺ قال:
اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام
وروى مثله عبد الله بن سلام رضي تعالى عنه.
وروى ابن حبان عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
*إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام.

قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: فتَّشت الأعمال كلها، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أودُّ لو كانت الدنيا بيدي أطعمتها الجائع، كفِّي مثقوبة لا تضبط شيئاً، لو جاءني ألف دينار لم يبت عندي.
فإن كان لإطعام الطعام هذا الفضل والأجر الكبير، فإنه يزداد أجره في هذه المناسبة العظيمة مناسبة أضحية عيد الأضحى، فأكثروا من إطعام الطعام وخاصة في هذه الأيام، لتنالوا التكريم من الله تعالى.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، إنه سميع قريب مجيب

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
2024/06/20 10:18:03
Back to Top
HTML Embed Code: