Telegram Group Search
395

جلسة الصفا

1 ذو الحجة 1445
7 حزيران 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*فضل عشر ذي الحجة والعمل الصالح فيه*

لا شكَّ أنَّ أشرف المقامات المقصودة بالذات هو مقام القرب من حضرة الرب سبحانه و تعالى، فالقرب من الله تعالى هو أفضل المنازل وأعلاها ، وأرفع المراتب وأسماها، وجميع المنازل والمراتب فهي دونها بكثير.

ومن حظي بالقرب من الله تعالى فهو أغنى الناس وأعز الناس، ولو لم يملك من الدنيا إلا الشيء القليل، ومن كان بعيداً عن الله تعالى فلا يفيده ملء الأرض ذهباً، لأنَّ ذلك كله سيتركه ويمضي إلى الله تعالى وحيداً لا شيء معه.

والله تعالى يحب من عبده أن يتقرب إليه حتى يقربه، ولذلك جعل له وسائل وطرقاً يتقرب بها إليه من عمل الصالحات وفعل الخيرات وأنواع العبادات

وليُقَوِّي الله تعالى فينا الهمة والعزيمة على ذلك، وعدنا بأن يثيبنا بأفضل مما نبذل، ويجازينا بأكثر مما نفعل، فقال تعالى في الحديث القدسي:
إذا تقرب العبد مني شبراً تقربت منه ذراعاً، واذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.

يعني أن إقبال الله تعالى على العبد إذا أقبل العبد عليه سبحانه ، يكون أكثر من إقبال العبد عليه
ومعنى الباع: طول ذراعي الإنسان وعضديه
، ففي هذه الجمل الثلاث بيان فضل الله تعالى ، وأنه يُعطي أكثر مما فُعل من أجله، ويُعطي العامل أكثر مما عمل.

وقد بيَّن الله تعالى أن المقربين هم السابقون إلى فعل هذه الخيرات والأعمال الصالحات، فقال تعالى:
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)

وقد شرع الله تعالى لعباده أعمالاً وعبادات إذا عملوها قرَّبهم إليه، وهي أعمال كثيرة مذكورة في الكتب المختصة بذلك.

ومما شرعه الله تعالى كذلك ليُقَرِّبَ عباده إليه، أن جعل لهم أياماً يضاعف فيها أجر الأعمال الصالحة ، ويجعلها الله تعالى فرصة لمن أراد أن يزداد قرباً منه سبحانه وتعالى في مدة يسيرة

ومن هذه الأيام أيام عشر ذي الحجة ونحن في اليوم الأول منه.

فروى الإمام البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ﷺ قال:
ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء،

يعني أنفق ماله كله في سبيل الله، ثم استشهد في سبيل الله.

وفي رواية عند الإمام أحمد والطبراني بلفظ :
ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله، العمل فيهن من أيام العشر.

وفي رواية عند الدارمي بلفظ :
ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرأ من خير يعمله في عشر ذي الأضحى.

وفي رواية عند البزار بلفظ :
أفضل أيام الدنيا أيام العشر.

هذه الأحاديث النبوية الشريفة تدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن ينهضوا للعمل الصالح في ايام عشر ذي الحجة ، وأعمالهم فيها أحب إليه من أعمالهم في غيرها من الأيام، ولذلك ضاعف لهم الأجر وضاعف لهم الحسنات والمكرمات.

قال الحافظ ابن رجب:
ليس كل أحد قادراً على الحج، فجعل الله تعالى موسم الحج مشتركاً بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج، قدر في العشر على عملٍ يعمله في بيته وبلده، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.
إذاً، كأن الله تعالى جعل هذه الأيام تعويضاً لمن لم يقدر على أداء فريضة الحج، وقال ابن رجب: الأعمال في هذه الأيام أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج :
صلاة الفجر في جماعة ، والصلوات في جماعة بشكل عام في هذه الأيام أحب إلى الله تعالى من غيرها من الأيام.
وصيام هذه الأيام أحب إلى الله تعالى من غيرها من الأيام.
وقراءة القرآن في هذه الأيام أحب إلى الله تعالى من القراءة في غيرها من الأيام.
وذكر الله في هذه الأيام أحب إلى الله تعالى من غيرها من الأيام.
والإنفاق في سبيل الله تعالى والإحسان إلى الفقراء أحب إلى الله تعالى من الإنفاق في غيرها من الأيام.
وعفوك عن المسيء إليك أحب إلى الله تعالى من غيرها من الأيام.

وهذه الأيام هي التي ورد أن الله عز وجل أقسم بها في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ)
قال الطبراني وابن كثير وغيرهما: المراد بها عشر ذي الحجة، نقل ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف.

لذلك كان الصالحون يغتنمون هذه الأيام ويفرحون أن أدركوها ويجتهدون في العبادة فيها .
فروي أن سعيد بن جبير كان يجتهد فيها اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يحثُّ الناس على اغتنام هذا العشر، ويقول لهم: لا تطفؤوا سرجكم في ليالي العشر.
وقال أبو عثمان النهدي وهو من كبار التابعين والمحدثين: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم.
وكان الحافظ ابن عساكر يعتكف في العشر الأواخر من شهر رمضان ويعتكف في عشر ذي الحجة.

وقوله عليه الصلاة و السلام: العمل الصالح في الحديث: ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام، يشمل كل عمل صالح حث عليه الله تعالى، وحث عليه رسوله ﷺ ، فكل ما كان عملاً صالحاً يصدق فيه هذا الحديث .

فمن الأعمال الصالحة التي يحبها الله تعالى:
1- *التوبة النصوح*، وهي التي يغفر الله تعالى بها الذنوب كلها قديمها وحديثها، سرَّها وعلانيتها، لأنه سبحانه وتعالى غافر الذنب وقابل التوب، وهو يحب التوابين، فيغدو المرء بالتوبة مرتاح النفس بما تخلص بتوبته من ثقل الذنوب والآثام،

وقد كان السلف الصالح من تعظيمهم لهذه الأيام لا يحدثون فيها ذنباً مهما صغر، حتى إنهم كانوا لا يحدثون فيها بالحديث الضعيف تورعاً، فقد ذكر أحد الحفاظ يدعى البرذعي في( سؤالاته) أنه قال: سألت أبا زُرعة الرازي في عشر ذي الحجة عن حديث، فأبى أن يقرأه عليَّ، وقال لي: فيه كلام أخاف أن لا يصح، فلما ألححت عليه قال: فأخِّره حتى تخرج العشر، فإني أكره أن أحدث بمثل هذا في عشر ذي الحجة

إذاً الواجب أن نتورع في هذا العشر عن الذنوب مهما صغرت.

2- *الصيام*، وهو من العمل الصالح، وروى الإمام أحمد وأبو داود عن بعض أزواج النبي ﷺ قالت: كان رسول الله ﷺ يصوم تسع ذي الحجة.
وأما ما ورد عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله ﷺ صائماً العشر قط، فقد جمع بين الحديثين الإمام أحمد، فذكر ان حديث السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها يعني لم يصمه كاملاً، وحديث بعض أزواج النبي ﷺ أنه كان يصوم أكثره.
ورجَّح الإمام أحمد أنه ﷺ كان يصوم هذه الأيام.
وكان أئمة التابعين من أمثال محمد بن سيرين ومجاهد وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس يصومون العشر كله

وكان الحسن البصري يقول: صيام يوم من العشر يعدل صيام شهرين.

وقد روى الترمذي وابن ماجه عن النبي ﷺ أن صيام يوم من أيام العشر يعدل صيام سنة وقيام ليلة منه يعدل قيام ليلة القدر، ولكن الحديث إسناده ضعيف، قيل: والصواب أنه مرسل، أي من رواية التابعي عن النبي ﷺ دون ذكر للصحابي.

وأفضل هذه الأيام و آكدها يوم عرفة، قال فيه النبي ﷺ:
صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده.

وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: لا بأس بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة.

وكان سعيد بن جبير يقول: أيقظوا خدمكم يتسحرون لصيام يوم عرفة.

3- *قيام الليل*، وقيام الليل ندبنا الله تعالى إليه في عديد من الآيات، فالأولى أن نحرص على قيام هذا العشر ولو بضع ركعات بعد العشاء نقرأ فيها صفحات من القرآن الكريم.

وقد مر معنا أن سعيد بن جبير كان يقول: لا تطفؤوا سرجكم في ليالي العشر

4- *الإكثار من ذكر الله عز وجل*، وهذا وجه إليه النبي ﷺ ، فقال عن هذه الأيام: فأكثروا فيهنَّ من التهليل والتسبيح والتحميد والتكبير

ومن أفضل الذكر تلاوة القرآن الكريم، فإن استطعت أن تختم ختمة في هذه الأيام فافعل فإنك تكون قد ربحت هذه الأيام.

5- ومن أهم الأعمال الصالحات في هذه الأيام :
*الصدقات*، والصدقات أجرها عظيم وخيرها عميم، وفوائدها عديدة لا مجال هنا لذكر فوائدها وفضائلها الجمة .
كان أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه يقول: والصدقة شيء عجيب، والصدقة شيء عجيب، والصدقة شيء عجيب، كان يقولها ثلاثاً.

6- ومن أهم الأعمال الصالحات في هذه الأيام كذلك :
*إصلاح ذات البين* وإزالة الخلافات وهذا مما يحبه الله تعالى ويحث عليه، وهو القائل: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، وهذا يعني أنه من لم يصلح بينه وبين أخيه فليس متقياً لله تعالى.
ويكفي في ذلك قول النبي ﷺ فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنه ﷺ قال:
ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟، قلنا : بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة.

والحديث المخيف هو أن الأعمال تعرض في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله تعالى في ذلك اليوم لكل امرىء لا يشرك بالله شيئا، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، يقول الله تعالى لملائكته: انظروا هذين حتى يصطلحا.

فلنحرص على اغتنام هذه الأيام بأنواع القربات والعبادات والأعمال الصالحات لنزداد قرباً من الله تعالى

وإذا ازددنا قرباً منه تعالى أحبَّنا سبحانه وتعالى، وما أعظمها من نعمة، وما أثمنه من كنز لا تقوم له الدنيا، فهو القائل في الحديث القدسي:
ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.
يعني يصبح رحمانياً في جوارحه كلها، ويغدو ربانياً فلا يفعل بجوارحه إلا ما فيه مرضاة الله تعالى، فلا ينظر إلى الحرام، ولا يصغي إلى الحرام، ولا يمشي إلى الحرام، ولا يأخذ بيده المال الحرام، ولا يؤذي بيده أحداً مما نهى الله تعالى عنه.

اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
♥️جلسة الصفا ♥️


26 ربيع الآخر 1437

5 شباط 2016

لفضيلة الشيخ♦️
🔸محمد نعيم عرقسوسي🔸


💥 بعنوان
طامات الكبر بالعلم والثقافة(1)(9)* *

لا زلنا نتحدث عن هذا الداء الخطير الذي هو أصل الأخلاق المذمومة، وأم الرذائل وفيروس الفرقة والاختلاف والبغضاء ألا هو خلق الكبر، وذكرنا ما قد يقع به الكبر من النعم التي أنعم الله بها علينا دون أن توصلنا إلى هذا الداء الخطير، وقلنا إنه مما قد يقع به الكبر المنصب والجاه، وكذلك الثروة والمال، وهذا ما تحدثنا فيه في الأسابيع الباقية.

ونتحدث اليوم أنه مما قد يقع به الكبر العلم والثقافة، فالعلم والثقافة لها زهو في النفس وتيه في الفكر وانتشاء وإحساس بالعلو والرفعة، على من يُقال عنهم "عوام الناس"، فالعلم والثقافة تعطي الإنسان زهواً بنفسه وتشعره وكأنه أعلى إنسان في المجتمع، لذلك قال الإمام الغزالي وغيره:
*ما أسرع الكبر إلى العلماء* .
وقالوا:
*آفة العلم الخيلاء*
وقال أحد الحكماء وهو يصف كبر العالم:
*فلا يلبث أن يستشعر الواحد منهم في نفسه كمال العلم، فيستعظم نفسه ويستحقر الناس ويستجهلهم سواءً كان العلم شرعياً أو مادياً*

وقد يكون هذا العالم عالماً بالشرع ولكنه لم يهذِّب نفسه، أو يكون العالم مختصاً بأي فرع من فروع المعرفة، في الطب في الهندسة في الحقوق في الاقتصاد في أي فن من الفنون، فإذا دخل به الكبر أحس بهذا الزهو والعلو والرفعة والارتفاع.
وقد تجد الكبر بين من صنفوا أنفسهم كما يُقال الفئة النخبوية، أو تجد الكبر بين ما يسمى "جيل الرواد" و"جيل الأقلام الناشئة"، مع أن الأصل أن يعطف بعضهم على بعض ويعين بعضهم بعضاً ويعلِّم بعضهم بعضاً، وقد يلتمس هؤلاء الذين يشعرون بالكبر والتيه، دليلاً من القرآن الكريم، يقول لك: أما قال الله تعالى:
‌‏*يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ*

يقول لك: أما قال الله تعالى:
*قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ*

ونقول: لا شكَّ أن الله تعالى أثنى على العلماء وذكر أن الله يرفعهم درجات، ولكن ثناء الله تعالى عليهم مشروطٌ بشروط، من جملة هذه الشروط تواضعهم وإخباتهم، لأن ذرة من الكبر تفسد على الإنسان عبادته وصلاحه وعلمه وثقافته، ذرة واحدة تفسد عليه أعماله كلها مهما كان صالحاً، قال النبي ﷺ:
*لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر*

لذلك نحن نتكلم عن هذا الداء لمحاصرته من كل الجهات حتى لا يدخل إلينا من أي منفذ من المنافذ، وبعض من تكبَّر بعلمه وقع في ضلالات والله تعالى حذَّر من هذا، فقال عز وجل في سورة الجاثية:
*أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ*

فهذا الذي يزهو ويتكبر بمعرفته وخبرته على الناس يصل إلى الضلالات، نعم في رأسه علمٌ ولكن في قلبه كبرٌ فأفسد ما في قلبه ما في رأسه من العلوم والمعارف، وكان يمكن أن ينتفع بها وينفع بها لولا هذا الداء الذي حجبه عن ذلك.

وللكبر عند العالم أو المثقف مظاهر تدل عليه، وهذه العلامات التي تكشف الكبر هي آفات وطامات يقع فيها المتكبر، من جملة ذلك ما قلناه سابقاً، إحساسه بالعلو والرفعة إذ يجعل نفسه في الطبقة العليا في المجتمع، وهذا يدل على أمر خطير وهو أنه لم يرد بعلمه وجه الله تعالى، وإنما أراد بعلمه أن يُشار إليه بالبنان، ولم ينتفع بعلمه ولن ينفع أمته ومجتمعه وبلاده، لذلك قال أهل المعرفة:
*من طلب العلم للآخرة كسره علمه وخشع قلبه واستكانت نفسه، وكان على نفسه بالمرصاد، ومن طلب العلم للفخر والرياسة ونظر إلى المسلمين شزراً فهذا من أكبر الكبر، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر*.

تعالوا معنا إلى الأسوة الحسنة إلى القدوة العظمية، تعالوا إلى سيدنا محمد ﷺ فقد حباه الله تعالى بمؤهلات العظمة وخصائص الرفعة ما لم ينله أحد غيره ولا شيئاً منه، اسمعوا ما قال الله تعالى له في القرآن:
* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ *
وقال له:
*وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا*
وقال له:
*أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ*(4)

أرأيتم إلى مؤهلات العظمة والرفعة التي كان عليها النبي ﷺ، ومع ذلك كان سيد المتواضعين ومواقفه في ذلك تدهش العقل، لا مجال لذكرها الآن، ومع كل تلك المؤهلات كان يدعو ويقول:
*اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين*

وليس المراد بالمسكنة هنا الفقر، وإنما المسكنة بمعنى التواضع والإخبات، فقال الإمام البيهقي في كتابه السنن الكبرى وفي كتابه شعب الإيمان: أنه ﷺ لم يسأل المسكنة التي يرجع معناها إلى القلة، وإنما سأل المسكنة التي معناها الإخبات والتواضع.
فإذا أوتيت علماً وأوتيت معرفة ونلت ثقافة، لا تشعر بالزهو والتيه والرفعة والعلو، بل قل:
*اللهم آتِ نفسي تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها*.

ومن مظاهر الكبر عند المثقف والعالم، وهي من الآفات والطامات، وهي أنه يحب أن يعظمه الناس ويوقروه وينادوه بالألقاب التي تليق به، فإذا خوطب أو وجه إليه كتاب مثلاً، ينبغي أن يقال: إلى فضيلة فلان، أو معالي فلان، إلى ما هنالك مما يعرفه الناس.
وإن حاز مثلاً على شهادة الدكتوراه، لا يرضى أن يدعى سوى بلقب دكتور، فإن أخلَّ بهذا أحد حنق عليه، وإن لم يُظهر امتعاضه أسرَّه في نفسه، بعضهم بعد أن نال شهادة الدكتوراه قال له صاحبه: يا أبا فلان، فقال له: رجاءً مناداتي دكتور فلان، أرأيتم كيف دخل الكبر إليه من خلال هذه الشهادة؟!!.

تعالوا بنا إلى الأسوة الحسنة، إلى قدوتنا العظيمة سيدنا محمد ﷺ، وهو في أعلى ذرا الإنسانية، والله تعالى سيعطيه يوم القيامة الوسيلة أرفع درجة في الجنة، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن رجلاً جاء إليه فقال له: يا خير البرية، فقال له النبي ﷺ: ذاك إبراهيم.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: يقوله احتراماً لإبراهيم وخلته وأبوَّته.

وقلنا سابقاً أن النبيﷺ وهو في أعلى ذرا الإنسانية، قال: *لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى*، وقال عليه الصلاة والسلام: *من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب*.
وهو الذي قال ﷺ:
*لا تطروني، كما أطرت النصارى عيسى بن مريم*، هذه هي القدوة العظيمة.

ثم أن تيه الإنسان من العلم وإعجابه به وحرصه على أن يُعظمه الناس في ذلك يدل على أنه لم ينل من العلم إلا القليل، لأن قليل العلم يوصل إلى هذا الجهل، قال الإمام الماوردي في كتابه النفيس "أدب الدنيا والدين": قلَّما تجد بالعلم معجباً وبما أدركه منه مفتخراً، إلا من كان فيه مُقلاً ومقصراً، لأنه قد يجهل قدره ويحسب أنه نال بالدخول فيه أكثره، ثم ذكر الماوردي قول للشعبي:
*العلم ثلاثة أشبار، فمن دخل بالشبر الأول تكبَّر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لا يعلم*
وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
* كُلَّما أَدَّبَني الدَّهرُ -- أَراني نَقصَ عَقلي وَ إذا ما ازدَدتُ عِلماً -- زادَني عِلماً بِجَهلي*
فالعلم بحرٌ لا ساحل له ومهما حصَّل من العلم لا يحصِّل إلا القليل، قال الإمام المارودي رحمه الله تعالى بعد ما ذكر قول الإمام الشعبي:
ومما أنذرك(أعلمك) به من حالي أنني صنفت في البيوع كتاباً جمعت فيه ما استطعت، وأجهدت فيه نفسي حتى تهذَّب واستكمل، وكدت أُعجب به وتصورت أنني أشد الناس اطلاعاً بعلمه، إذ حضر في مجلسي أعرابيان فسألاني عن بيعٍ عقداه في البادية على شروط تضمنت أربعة مسائل، لم أعرف لواحدة منهن جواباً، فأطرقت مفكراً بحالي وحالهما معتبراً، فقالا: ما عندك فيما سألنا جواب؟؟!!، قلت: لا، قالا: واهاً لك(يا حسرة عليك) وانصرفا، فعرف الإمام الماوردي بأن الإعجاب بما توصل إليه المرء من علمٍ خطأً عظيم ، لأنه كما قال تعالى:
*وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ*.

ومن مظاهر الكبر لعالم أو المثقف أو المختص، وهي من الآفات والطامات، بأنه لا يتواضع على طلاب العلم ولا يتودد إليهم أصلاً، بل يزهو عليهم بما لديه من درجات علمية و شهادات عالية رفيعة، قد يكون هذا المختص يحمل مثلاً شهادة البورد في اختصاصه، فيشمخ بأنفه على الطلاب ويزهو عليهم مما يؤدي إلى أمر خطير، وهو أنه لا يقدم للطلاب ما يستحقونه من المعرفة والفوائد العلمية، ولا يُبسِّطُ إليهم المسائل ليفهموها، بل قد يتعمد الغموض في الحديث باستعمال مصطلحات غريبة وعبارات غامضة ليُشعر الطلاب بعلوِّ كعبه في العلم، ولو رجع إلى القدوة العظمى والأسوة الحسنة إلى سيدنا محمد ﷺ لعرف كيف ينبغي أن يفعل، النبي عليه الصلاة والسلام كان سيد العلماء، بل منه نهل العلماء كل هذه العلوم والمعارف الغزيرة هو الذي قال الله تعالى له:
*وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا*
وقال الله تعالى له:
*وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*
والتعبير بالجناح تعبير رائع، لأن الجناح به يُحلِّق الطائر وهنا من باب التشبيه والاستعارة، الجناح هو سبب العلو والتحليق، فالله سبحانه وتعالى يقول له: ما هو سبب العلو والتحليق، اخفضه لمن اتبعك من المؤمنين، فعلمهم وأرشدهم وبيِّن لهم الحق، وهذا ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام على أعظم وجه وأحلى صورة، فروى الإمام مسلم في صحيحه(876) عن أبي رفاعة العدوي رضي الله تعالى عنه قال:
* انتهيت إلى النبي ﷺ وهو يخطب فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، يقول أبو رفاعة: فأقبل عليَّ رسول الله ﷺ وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأوتي بكرسيٍ حسبت قواعده حديداً فقعد عليه رسول الله ﷺ وجعل يُعلِّمني مما علمه الله تعالى، ثم أتى خطبته فأتمَّ آخرها*
ما هذا الموقف العظيم الموقف الرائع الذي يعلمنا فيه النبي ﷺأن نتواضع لطلاب العلم لنعلمهم، وأخذاً بهذا التوجيه الرباني والتوجيه النبوي، قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
*تواضعوا لمن تتعلمون منه العلم وتواضعوا لمن تعلمونه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم*، وفي رواية: *فيغلب جهلكم علمكم*.

هذا بعض مظاهر الكبر، كبر العلم والثقافة وهي من الآفات والطامات التي يقع بها المتكبر فيخسر كثيراً، وهناك آفات وطامات أخرى نذكرها في الدرس القادم بإذن الله تعالى.

*والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم*
396


جلسة الصفا

8 ذو الحجة 1445
14 حزيران 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*فضل يوم عرفة وفضل الأضحية*

يوم غد هو أفضل أيام العام ، وهو يوم عرفة، والذي ثبت له فضائل عديدة منها:

1- هو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة:
روى الإمام البخاري ومسلم عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل من اليهود، فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟، قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
فقال له سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: والله إني لأعلم اليوم نزلت فيه ، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله ﷺ بعرفات في يوم جمعة.

2- وهو يوم العتق من النار:
فروى الإمام مسلم في صحيحه أنه ﷺ قال: ما من يوم أكثر من أن يعتق بها الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة.

3- وهو يوم المغفرة:
ففي رواية في صحيح مسلم، يقول الله لملائكته: اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت لهم.
وروى الطبراني والبزار أن النبي ﷺ ذكر أن الله يُباهي بالحجيج ملائكته، يقول للملائكة: عبادي جاؤوني شعثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل أو كقطر المطر أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له.

4- وهو يوم الدعاء:
فروى الإمام الترمذي في السنن أنه ﷺ قال: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وروي أن الصالحين كانوا يجهزون دعواتهم ليوم عرفة، فقد روي عن أحد الصالحين أنه قال: والله ما دعوت دعوة يوم عرفة، فما دار عليها الحول، إلا رأيتها مثل فلق الصبح.

5- وهو يوم أقسم الله تعالى به في قوله تعالى: (وشاهد ومشهود)، فروى الإمام الترمذي من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال: اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة.

وهو يومٌ فضلُه مكاني وزماني، فليس فضله محصوراً في أرض عرفة، وإنما يشمل فضل ذلك اليوم الأرض كله، بدليل أنه يُسَن صيام هذا اليوم لغير الحاج، فقال عليه الصلاة والسلام:
"صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده"

6- وهو يوم يغتاظ منه الشيطان:
ففي موطأ مالك من مراسيل طلحة بن عبيد الله عن كريز أن النبي ﷺ قال: ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه من يوم عرفة. وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام.

ولذلك كان السلف الصالح يعظمون ذلك اليوم ، ويغلب عليهم الخوف في ذلك اليوم، فهذا مطرف بن عبد الله بن الشخير، وهو من علماء التابعين ومن عبادهم، وقف في عرفة مع بكر المزني، فقال أحدهم: اللهم لا تردَّ أهل الموقف من أجلي، وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أنِّي فيه.

ووقف الفضيل بن عياض بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى، حتى حال البكاء بينه وبين الدعاء فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: واخجلتاه منك وإن عفوت عني،

قال ذلك لأنه غلب عليه الحياء من الله تعالى.

وكان بعض السلف يأخذ بلحيته في يوم عرفة ويقول: يا رب، قد كبرت فأعتقني.

وجاء عبد الله بن المبارك إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه في عرفة وعيناه تهملان من الدموع، فقال ابن المبارك لسفيان الثوري:
من أسوأ هذا الجمع حالاً؟، فقال سفيان: الذي يظن أن الله لا يغفر له.

وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً، (يعني: سدس درهم) أكان يردهم؟، قالوا: لا، فقال لهم الفضيل: والله للمغفرة عند الله تعالى أهون من إجابة رجل لهم بدانق.

قال الحافظ ابن رجب:
من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه.
ومن عجز عن المبيت بمزدلفة، فليبت عزمه على طاعة الله تعالى وقد قرَّبه وأزلفه.
ومن لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف، فليقم لله بحق الرجاء والخوف.
ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هواه هُنا وقد بلغ المُنى.
ومن لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد، فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلينا من حبل الوريد.

ومن العبادات الفاضلة بعد يوم عرفة أي في يوم الأضحى، التقرب إلى الله تعالى بالأضاحي .
والأضحية سنة مؤكدة في حق الموسر، وهو قول جمهور الفقهاء الشافعية والحنابلة، وقال بعض الفقهاء: إنها واجبة على من ملك النصاب من الحوائج

.وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)
وقد ورد في فضلها أحاديث عدة، منها ما رواه الإمام الترمذي وابن ماجه بإسناد فيه ضعف عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق الدم، (يعني الأضحية) وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع بمكان عند الله قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً.

وثبت فى صحيحي البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما .
يعني صفاح أعناقهما لئلا يضطربا عند الذبح، أملحين : أي لونهما سواد وبياض، أقرنين: لكل واحد منهما قرنان.

وروى الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: أقام رسول الله ﷺ بالمدينة عشر سنين يُضحي كل سنة.

وروى الإمام مسلم عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي ﷺ أمر بكبش أقرن، فأخذ الكبش فأضجعه ثم قال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد . ثم ضحَّى به.

وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: صليت مع رسول الله ﷺ عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه، فقال: بسم الله الله أكبر، هذا عني وعن من لم يُضحِّ من أمتي.

والأضحية شعيرة عظيمة من شعائر الله تعالى، وتشريع عظيم من تشريعات هذه الشريعة، وفيها خير عظيم وفضل كبير، وهي تتضمن هذه الثنائية الملازمة لشرائع هذا الدين العظيم، وهي إحسان عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله.

وجاءت الإشارة إلى هذه الثنائية في قوله تعالى:
﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
والبدن جمع بدنة، وهي الجمل الضخم البدن، وألحق بها البقر والغنم بدلالة السنة النبوية.
وقوله تعالى: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) ، قال الحافظ ابن كثير: أي ثواب عظيم في الدار الآخرة.

نقل سفيان الثوري عن أحد المحدثين، أنه كان يستدين ويتقرب بذبح البدن، فقيل له: تستدين وتسوق البدن؟؟!!، فقال: إني سمعت الله تعالى يقول: (لكُمْ فِيهَا خَيْرٌ).

وقوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا) ، قال ابن جرير الطبري: هذا الأمر للإباحة، يعني حلَّ لكم أكلها بعد نحرها، وليس أمر إيجاب، وذاك لأن المشركين كانوا لا يأكلون ذبائحهم، فأراد الله تعالى إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم أكل المُهدي من لحوم هديه، ورخص للمسلمين أن يأكلون منها، فمن شاء أكل، ومن شاء لم يأكل.

وأما الأمر في قوله تعالى:
(َوأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)، قال الإمام الشافعي: هو للوجوب ، وهو صريح قول الإمام مالك.
والقانع: هو المستغني بما أعطيته وهو في بيته، قاله ابن عباس،
والمعتر: هو الذي يتعرض لك لتعطيه اللحم.

قال الحافظ ابن كثير:
وقد احتج بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تُجزَّأ ثلاثة أجزاء، فثلث لصاحبها يأكله، وثلث يهديه لأهله وأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء.

والقول الثاني: أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف.

والأضحية فرصة عظيمة ومناسبة مباركة لكي نتقاسم نعمة الله علينا مع من حرم هذه النعمة، وهذا مما يحبه الله تعالى ويرضاه ويثيب عليه الكثير.

وفضل إطعام الطعام ورد في القرآن الكريم وفي سنة النبي ﷺ :

ففي القرآن الكريم في قوله تعالى في وصف الأبرار:
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)
وقوله تعالى:
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)

وفي السنة المطهرة روى الإمام البخاري ومسلم عن سيدنا عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ: أي الإسلام خير؟، فقال له ﷺ:
تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت وعلى لم تعرف

وروى الإمام أحمد عن صهيب بن سنان رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
خياركم من أطعم الطعام

وروى الإمام الترمذي عن سيدنا عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي ﷺ قال:
اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام
وروى مثله عبد الله بن سلام رضي تعالى عنه.
وروى ابن حبان عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
*إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام.

قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: فتَّشت الأعمال كلها، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أودُّ لو كانت الدنيا بيدي أطعمتها الجائع، كفِّي مثقوبة لا تضبط شيئاً، لو جاءني ألف دينار لم يبت عندي.
فإن كان لإطعام الطعام هذا الفضل والأجر الكبير، فإنه يزداد أجره في هذه المناسبة العظيمة مناسبة أضحية عيد الأضحى، فأكثروا من إطعام الطعام وخاصة في هذه الأيام، لتنالوا التكريم من الله تعالى.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، إنه سميع قريب مجيب

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
♥️جلسة الصفا ♥️


3 جمادى الأولى 1437

12 شباط 2016

لفضيلة الشيخ♦️
🔸محمد نعيم عرقسوسي🔸


💥 بعنوان
طامات الكبر بالعلم والثقافة(2)(10)* *

تكلمنا في الدرس الماضي عن الطامات التي يقع بها صاحب الكبر بعلمه وثقافته، وقلنا أن للعمل والثقافة زهواً في نفس الإنسان فيزدهي بها ويتيه بها، ويصل إلى حالة الكبر أحياناً، لذلك نحن نرصد هذه المنافذ التي قد يدخل إليها إبليس، لكي نغلقها إن شاء الله تعالى، ونستعمل نِعَم الله تعالى علينا فيما يُرضي الله عز وجل.
إذن نتكلم عن هذه الآفات، آفات العالم والمثقف وكذلك الخبير، يقول أحدهم: أنا خبير في هذه القضية ولا يوجد لي نظير، فهو يزهو بخبرته النظرية أو العملية ويزدهي بها على الخلق، هذه آفات نسأل الله عز وجل أن يُجيرنا منها.

ونتابع اليوم هذه الآفات التي يقع بها المتكبر بعلمه وثقافته وخبرته، أحياناً خبرة صناعية أو خبرة زراعية وجميع أنواع الخبرات التي يشعر بها الإنسان بالاعتداد والزهو والتيه على من حوله.

من هذه الآفات، آفات المتكبر بعلمه وثقافته وخبرته، أن كبره يقع على لسانه كما قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، حتى يدعوه الكبر إلى الدعوى والمفاخرة والمباهاة وتزكية النفس، وكما قلنا هذه الآفات قد يقع فيها صاحب الثقافة والعلم والخبرة وقد نقع بها جميعاً، وقد يقع فيها عموم الخلق وليس هؤلاء فقط، لكن هؤلاء أكثر عرضة لذلك الكبر، لذلك حين نقرأ ونسمع هذه الآفات نجد أننا كلنا قد نقع بها، وقانا الله تعالى منها.
إذن الكبر يظهر أحياناً على اللسان بتزكية النفس، وهذه التزكية يمدح بها نفسه ويمدح بها علمه ويمدح بها إنجازاته، ويتحدَّث عن أعماله التي ليس لها نظير، حتى يوهم الناس، هذا العالم أو المثقف أو الخبير، يوهم الناس أنه وحيد عصره وفريد داره.
وأحيانا تكون تزكية النفس بطريقة غير مباشرة، حيث تكون تزكية النفس والثناء عليها عن طريق الغض من الآخرين وانتقاص قدرهم والحط من شأنهم وتتبع عثراتهم وتصيد أخطائهم، فحين يتكلم عن عيوب الآخرين وعثراتهم وأخطائهم فمعنى هذا أنه يزكي نفسه، مع أن كثيراً مما يقوله أوهام توهمها، أو أقوال رجع عنها قائلها، وكان الأحرى به إذا كان للذين يتحدث عنهم عثرات وأخطاء، أن يرسل بملاحظاته إليهم ويدلهم على مواطن الخطأ دون أن يحدث ضجة وصخباً، ودون أن يُظهر مساوئ ومعايب، والله سبحانه وتعالى قال:
*فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى*

ومن جملة الآفات والطامات التي يقع بها صاحب الكبر، أنه إن كان في مجلس ما ومعه بعض أقرانه ونظرائه فهو يُحب أن يكون هو المتصدر في المجلس وهو المتصدر في الكلام، وإن كان هناك أسئلة يُحبُّ أن يكون السؤال موجهاً إليه دون غيره، لأنه يرى أنه هو قبلة العلم والمعرفة فلا ينبغي أن يُسأل غيره ولا يتوجه السؤال إلى الآخرين وهو يتغيَّظ من ذلك، مع أن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم بدءً من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم من التابعين وأتباع التابعين، ونحن نطالع في سيرتهم لأنها تعطينا القدوة الحسنة، هم تعلموا على مائدة القرآن ومائدة النبي عليه الصلاة والسلام، السلف الصالح كان إذا سئل أحدهم سؤالاً أحاله إلى غيره، فروى عبد الرحمن ابن أبي ليلى وهو من كبار الفقهاء والمحدثين والتابعين، يقول:
أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله ﷺ، يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا ثم ترجع إلى الأول، قد يكون إنسان يعلم فعلاً، فإن قال هذا من باب الإفادة فقط فلا بأس، ولكن كما نعلم: *إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى*، *وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ*، فلو أن إنساناً قال: أنا خبير بهذه القضية يُريد أن يُظهر ويُعلِّم الناس فلا مانع من هذا، لكن لا بقصد التباهي وتزكية النفس والحطِّ من الآخرين، فهذا يجب أن نعرفه، وفي رواية لعبد الرحمن بن أبي ليلى يقول عن الصحابة الكرام:
*ما منهم بأحد يُحدِّث بحديث إلا ودَّ أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شيء إلا ودَّ أخاه كفاه الفتيا*
حتى يُبعد عن نفسه الكبر والزهو وغير ذلك، فالقضية خطيرة وهم يعرفون ذلك، ذرة من الكبر تفسد على الإنسان كل عباداته.

ومن الآفات كذلك، آفات المتكبر بثقافته وعلمه، أنه إذا وجِّه إلى سؤال ولم يكن متمكناً في الجواب عنه ولا عارفاً بدقائقه وتفاصيله، يتكلَّفُ الجواب عنه دون أن يُحيل السؤال إلى من هو أدرى منه بالجواب، والصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم بما تعلَّموه من النبي عليه الصلاة والسلام، خطوا إلينا المنهج العلمي الصحيح، في إحالة السائل إلى المختص بموضوع السؤال، فروى الإمام أحمد في المسند والإمام مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن شريح ابن هانئ قال:
*سألت السيدة عائشة رضي الله عنها عن المسح عن الخفين، فقالت له: سل علياً فإنه أعلم مني بذلك، فقد كان يُسافر مع رسول الله ﷺ، يقول شريح: فسألت علياُ رضي الله تعالى عنه فقال: قال رسول الله ﷺ: للمقيم يومٌ وليلة، وللمسافر ثلاث أيامٍ بلياليهن*

وروى الإمام البخاري عن عمران بن حطان قال:
* سألت السيدة عائشة رضي الله عنها عن الحرير فقالت: ائت ابن عباس فسله، فذهبت إلى ابن عباس فسألته فقال: سل ابن عمر، فسألت ابن عمر فقال: أخبرني أبو حفص* (يعني والده سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه) *قال: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة*.

وروى الإمام البخاري عن عبد الرحمن بن مطعم أنه سأل البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه عن البيع نسيئة، أجابه البراء بن عازب ثم قال له: الق زيد بن أرقم فاسأله، فإنه كان أعظمنا تجارة.

أحاله إلى المختص بالمسألة ولو كان عنده إلمام بها، لأن هذا فيه أمانة للعلم وفيه نصيحة للسائل ليعرف الجواب بدقائقه وحقيقته.

إذن هؤلاء العلماء كما رأيتم، كان أحدهم لا يتحرَّج أن يقول: فلان أعلم مني، وروى يحيى بن معين وهو من كبار أئمة الجرح والتعديل، وكان معاصراً للإمام أحمد بن حنبل، روى أن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء بن أبي رباح، (وكان شيخ الحرم ومن كبار التابعين)، فجعل عطاء يسألني فكأنّ أصحابه(تلاميذه) أنكروا ذلك!!!، وقالوا له: تسأله؟؟!!، قال: ما تنكرون؟؟، هو أعلم مني.
قال ذلك بكل بساطة مع أن عطاء بن أبي رباح حجَّ سبعين حجة، وكان من أعلم الناس بالحج وعاش مائة سنة.

والصحابي الجليل سيدنا العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قال لابنه عبد الله: يا بني، أنت أعلم مني وأنا أفقه منك، وإن عمر بن الخطاب يُدنيك(يقربك) فاحفظ عني ثلاثً: لا تفشينَّ له سراً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً، ولا تبتدئه بشيءٍ حتى يسألك عنه، وفي رواية: ولا يجرِّبنَّ عليك كذباً.

وقال إبراهيم بن هاني النيسابوري: صليت مع بشر بن الحارث(بشر الحافي) فجعلت أرفع في الصلاة(رفع اليدين أثناء الركوع والسجود)، فلما سلَّم الإمام قال لي بشر: يا أبا اسحق، العجب منك ومن صاحبك أبي عبد الله أحمد بن حنبل، أترفعون في الصلاة، وقد حدثنا هُشيم عن مغيرة عن إبراهيم(النخعي) أنه كان يأمر بإرسال اليدين في الصلاة، يقول إبراهيم النيسابوري: فذهبت إلى الإمام أحمد بن حنبل وذكرت له ما قال بشر بن الحارث، فقال الإمام أحمد: سبعة عشر من أصحاب رسول الله ﷺ رفعوا أيديهم في الصلاة، ثم قال له: الرفع زين الصلاة، فرجعت إلى بشر فأخبرته بما قال الإمام أحمد، فقال: ومن أنا من أبي عبد الله؟، ومن أنا من أبي عبد الله؟، ذلك أعلم مني، ذلك أعلم مني.
أرأيتم إلى تواضع العلماء، وإلى إنصافهم وإلى إقرارهم بفضل بعضهم؟؟، كان أحدهم يتحرّج أن يقول أنا اعلم من غيري.

جاء في ترجمة الإمام مالك قال: دخلت على الخليفة أبي جعفر المنصور فقال لي: أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس، فقال الإمام مالك: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: بلى ولكنك تتكتَّم.

وروي عن عبد الرحمن بن القاسم وهو تلميذ الإمام مالك، قال لمالك: ما أعلم أحداً أعلم بالبيوع من أهل مصر، فقال له: وبمَ ذاك، فقال: بك، لأنهم تعلموا فقهك، فقال الإمام مالك: أنا لا أعرف البيوع فكيف يعرفونها بي؟.

وقال الشيرازي في كتابه "طبقات فقهاء الشافعية"، ذكر في ترجمة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ولد في خلافة سيدنا علي رضي الله تعالى عنه، وتوفي سنة 106 للهجرة، وكان من أعلم أهل المدينة، يقول محمد بن إسحق وهو محدث ومؤرخ: رأيت القاسم يُصلي، فجاءه أعرابي بعد انتهاء الصلاة فقال: أيكما أعلم؟، أنت أم سالم بن عبد الله بن عمر؟ فقال القاسم: سبحان الله!!، كلٌ يخبرك بما يعلم، فقال الأعرابي: أيكما أعلم؟؟، قال: سبحان الله!!، كلٌ يخبرك بما يعلم، فأعاد الإعرابي سؤاله: أيكما أعلم؟، فقال القاسم: ذلك منزل سالم انطلق فسله، فقام عنه.

يقول محمد بن إسحق: كره القاسم أن يقول: هو أعلم مني فيكذب، وكره أن يقول: أنا أعلم منه فيُزكِّي نفسه.

ومن الآفات والطامات التي يقع بها المغرور بعلمه وثقافته، أنه قد يُسأل سؤالاً لا يدري الجواب عنه أصلاً، فتأبى نفسه ويصعب عليه أن يقول: لا أدري، بسبب الكبر، فيبدأ باللف والدوران ولكن دون أي جدوى، لأنه يظن إن قال لا أدري يسقط من عين السائل، مع أنه من تمام العلم ومن حقيقة العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم.

وروى الإمام البخاري عن مسروق بن الأجدع وهو من التابعين أنه سمع رجلاً يتكلم في تفسير قوله تعالى: *فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ*، فأتيت ابن مسعود فذكرت له ما قاله ذاك الرجل، فكان متكئاً فغضب فجلس فقال: أيها الناس، من علم فليقل ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، لأنَّ من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، لأن الله تعالى قال لنبيه:
*قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ*
إذن هذا هو المنهج العلمي، قضية لا تعرفها، قل بكل بساطة: لا أعلم، لذلك القاسم بن محمد بن أبي بكر و كان أعلم أهل المدينة وكان يسمونه: الحافظ الحجَّة، لما جاءه رجل سأله عن شيء، قال القاسم لا أحسنه(ليس عندي جواب)، فجعل الرجل يقول: إني رُفعتُ إليك ولا أعرف غيرك، فقال له القاسم بن محمد وهو العالم الحافظ الحجة: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، ما أحسنه، فقال شيخٌ من قريش جالسٌ إلى جنب القاسم: يا ابن أخي الزمها، فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم.

وقال القاسم بن محمد أيضاً: *لأن يُقطع لساني أحبُّ إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به*
حتى يقولون أنه جاءه أمير من أمراء المدينة فسأله عن شيء، فقال له القاسم: إن من إكرام المرء نفسه ألا يقول إلا ما أحاط به علمه.

وجاء رجلٌ إلى الإمام مالك فقال: يا أبا عبد الله، جئتك من مسيرة كذا، حمَّلني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال: سل، فسأله الرجل عن المسألة، قال: لا أحسنها، فبُهتَ الرجل، كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء، قال: فأي شيء أقول لأهل بلدتي إذا رجعت لهم؟!!، قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن.

فالمتكبر يصعب عليه أن يقول: لا أدري، لكن المتواضع بعلمه والأمين في علمه يقول: لا أدري ولا يتحرَّج ويضيق صدره من ذلك.

ومن الآفات والطامات التي يقع فيها صاحب الكبر بالعلم والثقافة، أنه يضيق صدره إذا أثنيت على عالم آخر أمامه، أو أثنيت على مثقف آخر على مؤلفاته وعطاءاته ودروسه وغير ذلك، ويضيق صدره كذلك أن تذكر له ما قال ذاك العالم في مسألة ما قال هو بخلافها، وهذا كثيراً ما يوقع الناس في الحرج، فقد يكون من الضرورة ومن الحاجة تفصيل القول في مسألة ما، والتعرف على ما فيها من الوجوه، فتتحرج أن تقول له: فلان قال: كذا، وهذا كثيرا ما يحصل في مجتمعنا مع الأطباء ومع المهندسين ومع المختصين بشكل عام، فإذا شخَّص طبيب ما مرض أحد من الناس، وانتهى فيه إلى رأي يتحرج فيه الناس أن يقولوا له: لكن الطبيب الفلاني قال: غير ذلك، أو فلان وصف الدواء الفلاني، فالذي يحب المعرفة والعلم يحب أن يسمع كل التفاصيل والآراء، أما الذي يتيه برأيه ويشمخ بعلمه، فلا يحب أن يسمع قولاً آخر يُقارن بقوله، المتواضع لا يزعجه ولا يضيره بل يسرَّه أن يسمع آراء المختصين الآخرين، ويتعرف على وجهات نظر الجميع.
قد تعطي مهندساً مشروعاً ما فتقول له: ولكن هناك المهندس الفلاني قال غير ذلك، فيقول له: اطوِ الدراسة واذهب إلى عنده، وهذا سلوك خاطئ، عليه أن يسمع لعله يستفيد من كلمة أو كلمات قالها، ولعله إذا سمع يفيد صاحب المشروع، ويا أيها الطبيب، إذا سمعت قولاً آخر قد تنقذ المريض، والله سبحانه وتعالى قد فتح على كل إنسان بجانب من الجوانب، ولم يحتكر العلم لإنسان واحد، فقد أعطى الفوائد للجميع.

لذلك لو نعود إلى السلف الصالح وهم قدوتنا في هذا، نجد أنه لا يتألمون ولا يتحرجون ولا ينزعجون إذا قلت لأحدهم: فلان قال ذلك، فروى الإمام البخاري في صحيحه أن بعض أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله تعالى عنه ترجمان القرآن وحبر الأمة، سألوه: عن امرأة طافت طواف الإفاضة ثم حاضت، هل تنتظر طواف الوداع؟؟ أو ماذا تفعل؟، قال لهم: تنفر(يعني سقط عنها طواف الوداع)، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد(ابن ثابت)، الذي قال: تقيم حتى تطهر ثم تطوف طواف الوداع، فقال ابن عباس بكل سعة صدر ودون تململ ولا ضجر: إذا قدمتم المدينة فاسألوا، فلما قدموا المدينة سألوا، وكان مما سألوا أم سليم (أم سيدنا أنس بن مالك)، فذكرت حديث السيدة صفية زوجة النبي عليه الصلاة والسلام، لما حاضت، فقال النبي ﷺ أحابستنا هي؟؟!، فقالوا: إنها أفاضت(يعني طافت طواف الإفاضة)، قال: إذن لا، ويجوز أن تنفر ويسقط عنها طواف الوداع، فرجعوا إلى ابن عباس وقالوا له: وجدنا الحديث كما حدثتنا، روي أن زيد بن ثابت رجع عن قوله هذا بعد أن علم بهذا الحديث.
إذن لم يضر ابن عباس ولم يتغيَّظ عندما قالوا له: فلان يقول غير ذلك، هذا هو التواضع الذي يجب عليه أن يكون أهل العلم والثقافة والخبرة والمعرفة، ليعمَّ الخير في المجتمع.
وهناك أمثلة أخرى نكتفي بما ذكرنا منها، كما أنه يوجد آفات وطامات أخرى سنذكرها في وقت لاحق إن شاء الله تعالى:

*اللهم نقِّ قلوبنا من الكبر حتى لا نقع في هذه الآفات، ونسأله سبحانه وتعالى أن يُكرمنا أن نكون بعلمنا ممن يرفعهم الله تعالى درجات، ونعيش في هذه الحياة بهناءة وسعادة وراحة نفس وطمأنينة، دون تغيُّظٍ أو ضيق صدرٍ أو غير ذلك*.


*والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم*
397


جلسة الصفا

15 ذو الحجة 1445
21 حزيران 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*من سيرة الشيخ عبد القادر الجيلاني*

قال الإمام الذهبي في ترجمة الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتابه سير أعلام النبلاء:
الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء، لقبه محيي الدين أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح عبد الله، ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما الجيلي الحنبلي شيخ بغداد
وأمه أم الخير فاطمة بنت أبي عبد الله الصومعي، لذلك كان يقال له:
سبط عبد الله الصومعي، كان لها حظ وافر من الخير والصلاح.

مولده بجيلان في سنة إحدى وسبعين وأربع مئة، وجيلان اليوم هي إحدى محافظات إيران الإحدى والثلاثين، وكلمة جيلان تعني أرض الجبل، وهي كلمة بابلية الأصل، وكانت تسمى قديما الديلم، ويسمى سكانها الديالمة، ويحدها من الشمال بحر قزوين وجمهورية أذربيجان ومن الغرب محافظة أردبيل.

وقدم بغداد شاباً، وسيرته تنبىء كيف وصل إلى هذه الدرجة في العلم والولاية والكرامات.

فهو أولاً تلقى الفقه والعلوم عن كبار العلماء والشيوخ، وأخذ عنه كذلك كثيرون

قال ابن النجار في تاريخه: دخل الشيخ عبد القادر بغداد في سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، فتفقه على أبو الوفاء ابن عقيل وأبي الخطاب وأبي سعد المخرِّمي وأبي الحسين بن الفراء، حتى أحكم الأصول والفروع والخلاف، وسمع الحديث، وقرأ الأدب على أبي زكريا التبريزي.

اذاً، كانت له في العلوم القدم الراسخة كما وصفه بذلك مؤرخو حياته .

ثم بالإضافة إلى ما تلقاه من العلوم أخذ في مجاهدة نفسه

قال ابن النجار في تاريخه: لازم الخلوة والرياضة(ترويض نفسه) والمجاهدة والسياحة والمقام في الخراب والصحراء

يعني كان شديد الحرص على الخلوة مع كثرة ذكر الله تعالى.

ووصفه أحد كبار المؤرخين وهو السمعاني فقال: كان عبد القادر من أهل جيلان، إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه، صالح، ديِّن، خيِّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة.

وبالإضافة إلى كثرة ذكره لله تعالى وحبِّه للخلوة، كان متصفاً بمحاسن الأخلاق وجميع الشمائل والصفات، وصفه بذلك من صاحبه وعاشره .

قال الشيخ المعمر جرادة: ما رأيت عيناي أحسن خلقاً ، ولا أوسع صدراً ، ولا أكرم نفساً ، ولا أعطف قلباً ، ولا أحفظ عهداً ووداً من سيدنا الشيخ عبد القادر، كان مع جلالة قدره وعلو منزلته وسعة علمه يقف مع الصغير، ويوقِّر الكبير، ويبدأ بالسلام، ويُجالس الضعفاء، ويتواضع للفقراء، وما قام لأحد من العظماء ولا الأعيان.

ومما رفعه وارتقى به في مدارج الولاية الصدقُ، فقد سأله سائل: علامَ بنيت أمرك؟ قال: على الصدق، ما كذبت قط، ولا لما كنت في المكتب(يعني عندما كان صغيراً)،

وقد جاء إلى أمه، وقال لها: هبيني لله تعالى، وأذني لي في السير إلى بغداد أشتغل بالعلم وأزور الصالحين، فسألتني عن سبب ذلك فأخبرتها، فبكت وقامت إلى ثمانين ديناراً ورَّثها أبي، فتركت لأخي أربعين ديناراً، وخاطت في جيبي تحت ابطي أربعين ديناراً، وأذنت لي بالمسير، وعاهدتني على الصدق في كل أحوالي، وخرجتْ مودِّعة لي، وقالت: يا ولدي، اذهب فقد خرجت عنك لله عز وجل، فهذا وجهٌ لا أراه إلى يوم القيامة.
فسرتُ مع قافلة صغيرة نطلب بغداد، فلما تجاوزنا همذان خرج علينا ستون فارساً، فأخذوا القافلة، فاجتاز بي أحدهم، وقال: ما معك؟ فقلت: أربعون ديناراً، فقال: وأين هي؟ قلت: في جيبي تحت ابطي، فظنني استهزىء منه، فتركني وانصرف، ومرَّ بي آخر، فقال لي مثل ما قال الأول، وأجبته كجواب الأول، فتركني وانصرف، وتوافيا عند مقدَّمِهم، وأخبراه بما سمعاه مني، فقال: عليَّ به، فأُتي بي إليه، وإذا هم على تل يقتسمون أموال القافلة، فقال لي: ما معك؟، قلت: أربعون ديناراً، فقال: وأين هي؟ قلت: مخاطة في جيبي تحت ابطي، فأمر بجيبي ففتق، فوجد فيه الأربعين دينارا، فقال لي: ما حملك على هذا الاعتراف؟!!،قلت: إن أمي عاهدتني على الصدق، فأنا لا أخون عهدها، فبكى وقال له: أنت لم تخن عهد أمك، وأنا إلى اليوم كذا وكذا أخون عهد ربي؟!! فتاب على يدي، فقال له أصحابه: أنت كنت مقدَّمنا في قطع الطريق، وأنت الآن مقدَّمنا في التوبة، فتابوا كلهم، وردوا على القافلة ما أخذوا منهم، فهم أول من تاب على يدي.

ومما رفعه الله تعالى به وارتقى به في سلم الولاية صبره على القلة والفقر الشديد .
قال ابن النجار في تاريخه: قرأت بخط أبي بكر التيمي قال: سمعت الشيخ عبد القادر يقول: بلغت بي الضائقة في الغلاء إلى أن بقيت أياماً لا آكل طعاماً، بل كنت أتبع المنبوذات، فخرجت يوماً من شدة الجوع إلى الشط لعلِّي أجد ورق الخس أو البقل أو غير ذلك من المنبوذات فأتقوَّته، فما ذهبت إلى موضع إلا وقد وجدت غيري قد سبقني إليه، فضعفت، وعجزت عن التماسك، فدخلت مسجداً وقعدت وكدت أصافح الموت، إذ دخل شابٌ أعجمي ومعه خبز وشواء وجلس يأكل، فكنت أكاد كلَّما رفع لقمة أن أفتح فمي، فالتفت فرآني، فقال: بسم الله يا أخي،
فأبيت، فأقسم عليَّ، فأكلت مقصِّراً، فأخذ يسألني: ما شغلك؟ ومن أين أنت؟ فقلت له: متفقهٌ من جيلان، فقال الشاب: وأنا من جيلان، فهل تعرف شاباً جيلانياً اسمه عبد القادر، يعرف بسبط أبي عبد الله الصومعي الزاهد؟ فقلت: أنا هو فاضطرب لذلك، وتغيَّر وجهه، وقال: والله يا أخي لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي، فسألت عنك، فلم يرشدني أحد إلى أن نفدت نفقتي، وبقيت بعدها ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا من مالك، فلما كان هذا اليوم الرابع، قلت: قد تجاوزتني ثلاثة أيام، وحلت لي الميتة، فأخذت من وديعتك هذا الخبز والشواء، فكل طيباً، فإنما هو لك، وأنا ضيفك الآن، فقلت: وما ذاك؟ قال له: إن أمك وجَّهت معي ثمانية دنانير فاشتريت منها هذا الطعام، فأنا معتذر إليك من خيانتي لك مع فسحة الشرع لي في بعض ذلك، فسكَّنته وطيَّبت نفسه، وفضل من طعامنا ما دفعته إليه مع شيء من الذهب، فقبِلَه وانصرف.

وبالإضافة إلى ما كان عليه من الصدق والصبر على القلة والفاقة، كان متصفاً بالسخاء والإيثار، وهذه من أهم صفات الأولياء، فإنك لن تجد ولياً بخيلاً، ولن يكون البخيل ولياً.

قال الشيخ عبد القادر: أقمت ببغداد في بدء أمري عشرين يوماً ما أجد ما أقتات به، ولا أجد مباحاً، فخرجت إلى مكان اسمه خراب إيوان كسرى أطلب مباحاً، فوجدت هنالك سبعين رجلاً من الصالحين وكلهم يطلب ما طلبت، فقلت: ليس من المروءة أن أزاحمهم، فرجعت إلى بغداد، فلقيني رجل أعرفه من بلد أهلي، فأعطاني قُراضة(فراطة ذهب)، وقال: هذه بعثت بها أمك إليك معي، فأخذت منها قطعة تركتها لنفسي، وأسرعت بالباقي إلى خراب الإيوان، وفرَّقت القُراضة كلها على أولئك السبعين، فقالوا لي: ما هذا؟، قلت: إنه قد جاءني هذا من عند أمي، وما رأيت أن أتخصَّص به دونكم، ثم رجعت إلى بغداد، واشتريت بالقطعة التي معي طعاماً، وناديت فقراء، فأكلنا جميعاً، ولم يبت معي من القراضة شيء.

قال الشيخ عبد القادر : فتَّشتُ الأعمال كلها فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أودُّ لو أنَّ الدنيا بيدي فأطعمها الجياع، كفي مثقوبة لا تضبط شيئاً، لو جاءني ألف دينار لم أُبيِّتها، وكان إذا جاءه أحدٌ بذهبٍ يقول: ضعه تحت السجادة(ليسهل أخذه وتوزيعه).

وكان يكرم طلاب العلم ويهتم بهم ويجود عليهم، قال تلميذه الشيخ موفق الدين ابن قدامة أحد كبار فقهاء الحنابلة: أدركنا الشيخ عبد القادر في آخر عمره فأسكننا في مدرسته، وكان يُعنى بنا، وربما أرسل إلينا ابنه يحيى، فيُسرج لنا السراج، وربما يرسل إلينا طعاماً من منزله، وكان يصلي الفريضة بنا إماماً، وكنت أقرأ عليه من حفظي من كتاب الخِرَقي غدوة(ويسمى مختصر الخرقي) ويقرأ عليه الحافظ عبد الغني من كتاب الهداية، ولم أسمع عن أحد يُحكى عنه من الكرامات اكثر مما يحكى عنه، ولا رأيت أحداً يعظمه الناس للدِّين أكثر منه، وسمعنا عليه أجزاء يسيرة، فأقمنا عنده شهراً وتسعة أيام، ثم مات، وصلِّينا عليه ليلاً في مدرسته.

ومما رفعه الله تعالى به وأعلاه في درجات الأولياء، أنه لم يكن يحب الظهور ولا يحرص عليه، فقد قال: أتمنى أن أكون في الصحاري والبراري كما كنت في الأول، لا أرى الخلق ولا يرونني، ثم قال: أراد الله عز وجل منِّي منفعة الخلق، فإنه أسلم على يدي أكثر من خمس مئة من أهل الكتاب، وتاب على يدي من العياريين وقطاع الطرق أكثر من مئة ألف، وهذا خيرٌ كثير.

قال أحد تلاميذه عمر الكيميائي: لم تكن مجالس سيدنا الشيخ عبد القادر تخلو ممن يُسلم ولا مما يتوب عن قطع الطريق وقتل النفس وغير ذلك من الفساد، ولا ممن يرجع عن معتقدٍ سيئ.

قال الشيخ عبد القادر: ترد عليَّ الأثقال التي لو وضعت على الجبال تفسَّخت، فإذا كثُرت عليَّ أضع جنبي على الأرض وأقول: (فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً)، ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني.

قال المؤرخ سبط ابن الجوزي صاحب كتاب مرآة الزمان: كان سكوت الشيخ عبد القادر أكثر من كلامه، وكان يتكلم على الخواطر، وظهر له صيتٍ عظيم وقبول تام، وتاب على يديه معظم أهل بغداد، وأسلم خلق، وكان يصدع بالحق على المنبر، وكانت له كرامات ظاهرة، ويروون في كلامه على الخواطر قصصا عدة، منها:
ما قاله أحمد بن ظفر بن هبيرة، وهو حفيد الوزير ابن هبيرة، قال : سألت جدي أن أزور الشيخ عبد القادر، فأعطاني مبلغاً من الذهب لأعطيه، فلما نزل عن المنبر سلمت عليه، وتحرَّجت من دفع الذهب إليه في ذلك الجمع، فقال: هات ما معك ولا عليك من الناس وسلِّم على الوزير.

وقال أبو محمد بن الخشاب النحوي: كنت وأنا شاب أقرأ النحو، وأسمع الناس يصفون حسن كلام الشيخ عبد القادر، فكنت أريد أن أسمعه ولا يتَّسع وقتي، فاتفق أني حضرت يوماً مجلسه، فلما تكلًم لم أستحسن كلامه ولم أفهمه، فقلت في نفسي: ضاع اليوم مني، فالتفت إلى ناحيتي وقال: ويلك، تُفضِّل النحو على مجالس الذكر؟!!، اصحبنا نُصيِّرَك سيبويه.
وقال عبد الله الجبائي: كنت أسمع في كتاب"حلية الأولياء" على ابن ناصر، فرقَّ قلبي، وقلت: اشتهيت لو انقطعت وأشتغل بالعبادة، ومضيت فصليت خلف الشيخ عبد القادر ، فلما جلسنا نظر إليَّ وقال: إذا أردت الانقطاع، فلا تنقطع حتى تتفقَّه وتجالس الشيوخ وتتأدَّب، وإلا فتنقطع وأنت فُريِّخ ما ريَّشت.

لقد كان مما نفعه مخالفته لنفسه، فقد قال: ما غلبتني نفسي فيما تريده قط، ولا أعجبني شيء من زينة الدنيا قط، فقيل له: ولا لما كنت صغيرا؟، قال: ولا لما كنت صغيرا.
وكان إذا أحدث جدد في وقته وضوءً وصلى ركعتين، وكان يصلي العشاء ويدخل خلوته، ولا يدخلها معه أحد ولا يخرج منها إلا عند طلوع الفجر، وهو يكثر من ذكر الله تعالى بأسمائه الحسنى.

قال ولده الشيخ عبد الرزاق: جاءت إليه فتوى، عُرضت على علماء العراق، فلم يتضح لأحد منه جواب شاف، وصورتها: ما يقول السادة العلماء في رجل حلف بالطلاق الثلاث أنه لا بدَّ له أن يعبد الله عز وجل عبادةً ينفرد بها دون جميع الناس في وقت تلبسه بها، فما يفعل من العبادات؟؟، فكتب عليها على الفور: يأتي مكة، ويُخلى له الطواف، ويطوف سبعة أشواط وحده، وتنحلُّ يمينه . فما بات المستفتي ببغداد.

قال الشيخ عمر البزاز: كانت الفتاوي تأتيه من بلاد العراق وغيره، وما رأيناه تبيت عنده فتوى ليُطالع عليها أو يفكر فيها، بل يكتب عليها عقب قراءتها ، وكان يُفتي على مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله تعالى، وتعرض فتاواه على علماء العراق فما كان تعجُّبهم من صوابه أشد من تعجبهم من سرعة جوابه فيها.

وكان رحمه الله تعالى يُقْرأ عليه في طرفي النهار التفسير وعلوم الحديث والفقه والخلاف والأصول والنحو، وكان يقرئ القرآن بالقراءات بعد الظهر، وله في تفسير القرآن أشياء بديعة.

قال عبد الله الجبائي: كان الشيخ عبد القادر يوما يتكلم في الإخلاص والرياء والعجب، فالتفت إليَّ، وقال: إذا رأيت الأشياء من الله تعالى، وأنه وفقك لعمل الخير وأخرجت نفسك من البين سلمت من العجب.

له أقوال جميلة جداً وحكم بديعة، منها قوله: الخَلْقُ حجابك عن نفسك، ونفسك حجابك عن ربك.

توفي سنة 561 وعاش تسعين سنة رحمه الله تعالى.

قال الإمام الذهبي: ليس في كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثر من الشيخ عبد القادر، لكن كثيراً منها لا يصح .
يعني ان إسنادها إليه ضعيف.

اللهم اجعلنا من أوليائك المقربين إليك، وأكرمنا أن نكون من الصالحين يا رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
398


جلسة الصفا

22 ذو الحجة 1445
28 حزيران 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*من سيرة الشيخ عبد القادر الجيلاني* (2)

تكلمنا في الدرس الماضي عمن اتفق العلماء على أنه الإمام الرباني الزاهد القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء ويعرف أيضاً بسلطان الأولياء، وقدوة العارفين، وهو الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكيف رفع الله تعالى درجته وأعلى شأنه، ونفع به الآلاف من الخلق.

وذكرنا أنه كان لذلك طريق وفقه الله تعالى إليه ووصل به إلى هذه الرتبة العليا، وأن أول ذلك العلم حيث سافر إلى بغداد ، وتلقى العلم عن كبار العلماء، وأحكم ثلاثة عشر علماً من الفقه والتفسير والحديث والتوحيد والتصوف، حتى كثرت علومه و تنوعت دروسه.

وكان يحاول أن يوفق بين مذاهب أهل السنة والجماعة، فكان يفتي على المذهبين الشافعي والحنبلي، حتى قال عنه الإمام النووي إنه كان شيخ السادة الشافعية والسادة الحنابلة.

وذكرنا أنه بنى أمره على الصدق، ورأينا أن صدقه كان سبب توبة بعض قطاع الطرق.

وبنى أمره كذلك على الصبر على العوز والفقر، وطالما اقترض من البقالين غذاءه اليومي الذي لم يكن يزيد في أيام الغلاء عن رغيف خبز وقبضة من الرشاد، بانتظار ما يصله من والدته من نقود،

وذكرت لكم ما ذاقه من الجوع والحرمان حتى كان يقتات من ورق الخس وغيره من المنبوذات.
ومن ذلك شدة تعلقه بالله عز وجل وشدة توكله عليه وتفويض أموره إليه، فقبيل وفاته رحمه الله تعالى سأله ابنه عبد الوهاب الوصية، فقال له: عليك بتقوى الله عز وجل وطاعته، ولا تخف أحداً سوى الله، ولا ترج أحداً سوى الله، وكِلِ الحوائج كلها إلى الله عز وجل، واطلبها جميعها من الله، ولا تثق بأحدٍ سوى الله تعالى ولا تعتمد إلا عليه سبحانه و تعالى، وعليك بالتوحيد، التوحيد، التوحيد، جماع الكل التوحيد .

وأثمر ذلك أنه كان يكثر ذكر الله تعالى ويخرج لذلك إلى الخلوات والصحارى.

وأثمر ذلك أيضاً شدة مجاهدته لنفسه ومخالفته لهواه وبقاؤه على ذلك طيلة حياته، وهو القائل: أخرج نفسك من البين، وقال: إذا أخرجت نفسك من البَيْن فقد سلمت من العجب، يعني لا تنسب الأمور إلى نفسك، بل انسبها إلى توفيق الله تعالى وإعانته ومدده، ولا تنتصر لحظ نفسك، بل انتصر لله تعالى فقط، وقال: نفسك حجابك عن ربك.

ثم إنه بدأ بتدريس الناس وتربيتهم وتوجيههم التوجيه السديد، وقد بدأ مجلسه بالرجلين والثلاثة، ثم تزاحم الناس حتى صار مجلسه يضم حوالي السبعين ألفاً.

وكان شيخه أبو سعيد المبارك بن علي المخرمي شيخ الحنابلة قد بنى مدرسة صغيرة في حي من أحياء بغداد يسمى باب الأزج، فلما توفي فوَّض تلاميذه مدرسته إلى الشيخ عبد القادر، وأقبل الناس على درس الشيخ حتى ضاقت بهم المدرسة، فاشترى الأغنياء من تلاميذه ما حول المدرسة من البيوت، وهدموا المدرسة وأعادوا بناءها بعد أن وسعوها، بأموالهم ، وعمل الفقراء فيها بأنفسهم،
وروى المؤرخون أثناء ذلك صوراً من البذل والتضحية تكشف عن مدى تعلق طلابه والناس به .

من ذلك أن امرأة فقيرة قررت المساهمة في عمارة المدرسة، فلم تجد شيئاً، فجاءت بزوجها إلى الشيخ وقالت له: هذا زوجي لي عليه من المهر قدر عشرين ديناراً ذهبياً، وقد وهبت له نصفه بشرط أن يعمل في مدرستك، فكان الشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى يشغله في المدرسة يوماً بلا أجرة ، ويوما بأجرة لعلمه أنه فقير لا يملك شيئاً، فلما عمل بخمسة دنانير أخرج له الخط ودفعه له، وقال له: أنت في حل من الباقي.

واكتمل بناء المدرسة عام 528 هجرية وصارت منسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، حيث جعلها مركزاً لنشاطات عديدة منها التدريس والافتاء والوعظ،

ولتمويل المدرسة أوقف الأتباع والطلاب عليها أوقافاً دائمة للصرف على الأساتذة والطلاب.
وقسم الشيخ المبنى إلى مدرسة يدرس فيها التلاميذ يتلقون الدروس منه في شتى العلوم، وإلى رباط يعيش فيه المريدون ويتربون تربية روحية وخلقية على يديه بإرشاداته.

وتدل الأخبار المتعلقة بالمدرسة على أنها لعبت دوراً رئيساً في إعداد جيل المواجهة للخطر الصليبي في البلاد الشامية، فقد كانت المدرسة تستقبل أبناء النازحين الذين فروا من الاحتلال الصليبي، ثم تقوم بإعدادهم ثم إعادتهم إلى مناطق المواجهة الدائرة تحت القيادة الزنكية،

وكانت ثمة علاقة بين طلاب الشيخ عبد القادر وبين نور الدين الشهيد، وحظي بعض طلاب الشيخ عبد القادر بمكانة عند السلطان نور الدين وأسند نور الدين إليهم وظائف التدريس والقضاء.

وقد اشتهر من هؤلاء الطلاب ابن نجا الواعظ الذي أصبح فيما بعد المستشار السياسي والعسكري لصلاح الدين الأيوبي.
والحافظ الرهاوي، وموسى بن الشيخ عبد القادر الذي انتقل إلى بلاد الشام ليُسهم في النشاط الفكري،

ووضع الشيخ عبد القادر منهاجا متكاملا يستهدف إعداد الطلبة والمريدين ويؤهلهم لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفقاً لما يلي:
أولا: الإعداد الديني والعلمي.
والذي يتحدد حسب عمر الطالب وحاله، فإن كان ممن يقصدون تصحيح العبادة من الناس والعامة، درسه الشيخ عقيدة السنة وفقه العبادات، مع اهتمام خاص بالنابهين من الطلاب ليكون داعية بين الناس، بالإضافة إلى التدريب على الوعظ والخطابة والتدريس.

أما إذا كان الدارس طالباً من طلبة المدرسة، فإنه يتلقى إعداداً أوسع يتضمن حوالي ثلاثة عشر علماً تشتمل على التفسير والحديث والفقه والخلاف(الفقه المقارن) والأصول والنحو والقراءات وغيرها.

ثانيا: الإعداد الروحي:
ويستهدف تربية المريد حتى يصبح صفاء بلا كدر، ويصير مع النبي ﷺ في عقله ومشاعره، ويكون دليله وقدوته،

وليصل المتعلم إلى ذلك عليه أن يلتزم السنة في كل شيء وأن يتصف بصفات أساسها المجاهدة والتحلي بأعمال أولي العزم وهي:

1- ألا يحلف بالله عز وجل لا صادقاً ولا كاذباً، لا عامداً ولا ساهياً حتى يترك الحلف بالكلية، وبذلك يفتح الله تعالى له باباً من أنواره يدرك أثره في قلبه.

2- أن يجتنب الكذب هازلاً أو جاداً.

3- أن يفي بما يعد، وأن يعمل على ترك الوعد أصلاً لأن ذلك أضمن له من الوقوع في الحلف والكذب.

4- أن يجتنب الدعاء على أحد ولو ظلمه، ولا يقابله بقول أو فعل، فإن فعل ذلك ارتفع في عين الله تعالى ونال محبة الخلق جميعا.

5- أن يجتنب لعن شيء من الخلق وإيذاء ذرة فما فوقها، فذلك من أخلاق الأبرار.

6- ألا يشهد على أحدٍ من أهل القبلة بشرك أو كفر أو نفاق، فذلك أقرب لأخلاق السنة وأقرب للرحمة وأقرب إلى رضا الله تعالى، وهذا يورث العبد رحمة الخلق أجمعين.

7- أن يجتنب النظر إلى المعاصي وأن يكف جوارحه عنها، لأن ذلك يسرع في ترقية النفس إلى مقامات أعلى.

8- أن يقطع طمعه من الآدميين فذاك الغنى الخالص والعز الأكبر والتوكل الصحيح.

9- أن يتواضع والتواضع أصل الأخلاق كلها وبه يدرك العبد منازل الصالحين الراضين عن الله تعالى في السراء والضراء.

وقد حرص الشيخ عبد القادر أن يبتعد المريد عن كل ما ينزل مكانته الاجتماعية كالبطالة والعيش على هبات المحسنين وسؤال الناس، وحثه على الاشتغال بالكسب والتجارة مع مراعاة قواعد الأخلاق والأمانة .

وحذر طلابه من الضعف أمام عطاء الأغنياء أو الطمع بنوالهم، لأن تملقهم من أخطر الأمور على دين المرء وعلى خلقه شريطة أن يحسن الظن بهم وألا يتعالى عليهم.

وذكر موفق الدين ابن قدامة صاحب كتاب "المغني" وأحد مستشاري صلاح الدين، أنه كان يتخرج من مدرسته ثلاثة آلاف طالب كل سنة، أي تخرج منها نحو مئة ألف طالب في المدة التي أمضاها الشيخ رحمه الله تعالى في التدريس.

وانتشر تلاميذه في أنحاء العالم الإسلامي في ذلك الوقت، دعاة ومرشدين ومصلحين، وحفظ التاريخ أسماء المشهورين منهم، ولا داعي إلى ذكر أسمائهم ومراتبهم، فهم كثيرون في مختلف بلاد العالم الإسلامي شرقا وغربا.

وقد وصف ابن قدامة المقدسي طريقة الشيخ عبد القادر في التعليم وأثره في طلبة العلم، فقال:
دخلنا بغداد سنة إحدى وستين وخمس مئة، فإذا بالشيخ عبد القادر ممن انتهت إليه الرياسة ببغداد علماً وعملا واستفتاء، وكان يكفي طالب العلم عن قصد غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم والصبر على المشتغلين وسعة الصدر، وكان ملء العين وجمع الله تعالى فيه أوصافاً جميلة وأحوالاً عزيزة وما رأيت بعده مثله.

وكان يوضع للشيخ منصة عالية(منبر) ليجلس عليه عند إلقاء الدرس، وكان الناس جميعهم على كثرتهم يسمعون صوته البعيد منهم كالقريب.

وكرس الشيخ عبد القادر معظم أوقاته للمدرسة فكان لا يخرج منها إلا يوم الجمعة إلى المسجد.

ونتابع ترجمة هذا الإمام في الدرس القادم إن شاء الله تعالى .

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، يا رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
2024/07/01 13:38:48
Back to Top
HTML Embed Code: